بيان الأزهر في المواطنيّة: تأسيس لحقبة جديدة!
من الأحداث المهمّة ذات الطابع التاريخيّ التي عاشتها الساحة الفكريّة العربيّة الإسلاميّة إبّان الأشهر الفائتة كان انعقاد المؤتمر الذي دعا إليه الأزهر الشريف في قضيّة "المواطنة والعيش المشترك في العالم العربيّ"، وذلك 28 شباط (فبراير) حتّى الأوّل من آذار (مارس) 2017، في رحاب جامعة الأزهر بالقاهرة. ومن قراءتي الحَدَث وآراء المفكّرين اللبنانيّين وغيرهم، أسوق بعض الاستنتاجات السريعة:
أوّلاً: ما كان يُعتبر قضيّة لبنانيّة "المواطنة والعيش المشترك" أصبح مع انعقاد المؤتمر وبوجه أسمى قضيّة عربيّة إسلاميّة برزت معالمها والتحدّيات التي تتضمّنها ماثلة أمام الجميع. لم يتوان فضيلة شيخ الأزهر عن أن يعيد النظر في موقف الإسلام من هذه القضيّة، وأن يدعو الشيخ عبد اللطيف دريان إلى تحرير الدِّين من ربقة السياسة، وأن يعلو صوت البطريرك الراعي للعمل معًا من أجل فعلٍ مشترك تقوم به القيادات الدينيّة لإماطة اللثام عن قضيّة تهمُّ المؤمنين جميعًا.
ثانيًا: لا شكّ في أنّ الأنظمة السياسيّة والقيادات الحاكمة لها مسؤوليّتها في الدفاع عن مبدأ المواطنة والمساواة للجميع، إلاّ أنّ للأزهر الشريف كما للقيادات الدينيّة الأخرى أإسلاميّة كانت أم مسيحيّة مسؤوليّة كبرى هي ذات طابع أخلاقيّ أساسيّ. فعندما يتكلّم الأزهر على المواطنة كمبدأ جامع مؤسَّس على قواعد مشتركة دينيّة ومدنيّة، فهو يؤسّس لثقافة مواطنيّة جديدة ويدعو بالتالي العالم الإسلاميّ كلّه إلى النظر إلى الدِّين كعنصر جامع لا مفرّق، وأنّ التعدّديّة الدينيّة هي نعمة يجب المحافظة عليها وإعلاء شأنها.
ثالثًا: إنّ الدِّين وكلّ الأديان لا تدعو إلى العنف ولا تقبل الجريمة بأيّ حال من الأحوال باسم الله وباسم الدِّين. وهكذا إن قام أحدهم بالنيل من جاره باسم الدِّين لأنّ ذلك الجار هو على دين آخر فإنّ الدولة المؤتمنة على أرواح مواطنيها أن تنظر إلى الجاني المجرم وأن تعاقبه العقاب الصارم المناسب.
ورابعًا وأخيرًا: يقول بيان الأزهر الذي تلا القمّة "في المواطنة والعيش المشترك" إنّ واجب الدولة هو حماية كلّ المواطنين والمحافظة على أرواحهم كما على حريّاتهم وكرامتهم وممتلكاتهم وإنسانيّهم، من هنا الدعوة إلى تقوية الدولة وإرسائها على قواعد الشفافية والعدالة للجميع، وحقّ الجميع في التعبير والانتماء إلى دينهم وجماعتهم من دون مواربة.
وهكذا فإنّ انعقاد القمّة الروحيّة الإسلاميّة المسيحيّة المشتركة من ناحية، وصدور بيان الأزهر بعد المؤتمر وما فيه من أفكار إيجابيّة كان من الصعب صياغتها من قبل، أسّسا لعقد جديد مشترك لا بدّ أن يظهر في الأعمال والواقع، وإلاّ يبقى على مستوى النوايا والأفكار الجيّدة. نجاح بيان الأزهر يكتمل عندما تتحوّل أفكاره يومًا بعد يوم ثقافةً مشتركة عند الجميع وواقعًا اجتماعيًّا محسوسًا. وعندما سيصدر بيان الأزهر الثاني سوف نستطيع القول: "كان مؤتمر المواطنة والعيش المشترك حدثًا مؤسّسًا لعالم عربيّ أفضل" على مستوى المدى القريب الإسلاميّ كلّه لا بل أكثر.
الأب سليم دكّاش اليسوعيّ، رئيس تحرير مجلّة المشرق.
تعليقات 0 تعليق