حين تتـأدّب الحـرب: يعبِّر القلم كي يعبُر الألم
"الحرب"، كلمة في قاموس الصراع البشريّ البدائيّ والأبديّ تستمرّ في اجتياح العالم بجحافلها فتُسيَّس وتُؤَرَّخ وتُفلسَف فتتأدّب. لا ندّعي في هذه المقالة أن نقلب صفحات الأدب كلّها التي تطوي أحداث الحروب فعمرها من عمر صراع الإنسان مذ وُجد على سطح الفانية، لذلك تستوقفُنا منها محطاتٌ أدبيّة تترك عندها الحرب آثارها الداثرة لأطلال وقف عندها أدباء وشعراء بنوا على أنقاضها أبياتهم الشعريّة ورواياتهم طيّ صفحاتٍ شحبت مع الزمن وعادت النار تتأجّج لا لتلتهمها بل لتضيء تاريخها الذي يُعيد نفسه اليوم ويؤوّنها. |
في البدء كان الأدب الملحميّ
لأنّ الأدب يحاكي الإنسان في كلّ زمان ومكان، يدوّن أيضًا بين سطور التاريخ ردّه المضادّ للحرب التي ما انهزمت إلا مضرّجة بدم الألم وما قاومت إلا بسلاح القلم وتدبير الأدب بأنواعه المختلفة، بدءًا بارتقاء تدرّجي يندلع في التاريخ مع الحرب الملحميّة. ومن قوانين هذا النوع أن يسرد بمبالغة إنجازات بعض الأبطال الخارقين كما في "الإلياذة" و"الأوديسة" لهوميروس.
ولم يكن أقدر من الشعراء على بثّ روح الفروسيّة في نفوس المحاربين. فمنذ أقدم العصور، كان الشعر العربيّ يواكب المعارك والحروب، وقد يكون أدب الحرب عند المتنبّي (915-965) أصدق تعبير عمّا تناولته الحرب في الآداب العربيّة.
وفي فرنسا أيضًا شهد العصر الإقطاعيّ على ازدهار الأشعار الملحميّة التي تتغنّى بمآثر الفارس في معاركه البطوليّة مثل بطل "أنشودة رولان"[1] في القرن الثاني عشر. واستمرّ الأدب الملحميّ محاطًا بهالةٍ من التدبير الإلهيّ إلى أن شهد القرن السادس عشر جهاد الأخلاقيين في خلع عباءة التقديس عن الحرب، فلطالما استُدعِيَت الإرادة الإلهيّة في تبريرها فلا عجب من إعلان بوسوييه Bossuet أنّ "الله أوجد الحرب لشعبه وأعطاه ملوكًا مولعين بالقتال"[2] وكان لكلامه هذا دويّ كبير ما زال ينفجر اليوم على مسامعنا. ففي كلّ زمان ومكان، ما تهدمه السياسة، يبنيه الأدب[3].
"ما تهدمه السياسة، يبنيه الأدب"
في أوروبا، تعدّدت المواقف المضادّة للحرب فاستمدّت قوّتها من الدعوة الإنجيليّة إلى السلام التي نادى بها الأديب الفرنسيّ فرانسوا رابليه Rabelais François (1494-1553)، يناقضها المذهب البراغماتيّ النفعيّ الذي دعا إليه ماكيافيل Machiavel (1469-1527). لكنّ "الأمير الصالح لا يقبل أن يخوض أيّ حرب إلا بعدما يقوم بكلّ المحاولات فلا يستطيع تجنّبها."[4]
وفي وقتٍ كان فيه الكتّاب يشيدون بإنجازات لويس الرابع عشر العسكريّة، كان "لابرويير" La Bruyère (1645-1696) يرى أنّ "الحرب تقتل الإخوة في المعركة نفسها [...] ففي كلّ زمان يتّفق الرجال في ما بينهم ليتناحروا، وكلّ هذا من أجل الاستحواذ بمساحةٍ صغيرة من الأرض"[5].
في ضوء العقل، أدان الفلاسفة الحرب في القرن الثامن عشر معتبرين أنّها دعوى قانونيّة لتحقيق نزوات الأمراء. ويقول فولتيرVoltaire (1694-1778) "إنّ السلطات تتّفق على أمرٍ واحد ألا وهو القيام بكلّ ما أمكنها من أجل ارتكاب الشرّ [...] للقتلة زعيم يدعو الله علنًا قبل إبادة أخيه والقائد أحيانًا لا يشكر الله إن لم يقتل ثلاثة آلاف رجل. وحين يودي الجنود بحوالى عشرة آلاف رجل يطلقون أنشودة النصر. الدين الطبيعيّ يمنع المواطنين من ارتكاب الجرائم، لكنّ الدين المزيّف يحثّ على ارتكاب كلّ الفظاعات"[6]:
"ويمزّق النسر الصقر إلى قطعٍ شرّ تمزيق
ويرشق الإنسان النسر بنباله ويُرديه قتيلاً
ويسقط الإنسان في غبار معارك الحروب
ويختلط دمه بدماء القتلى من رفاقه
ويصبح بدوره طعامًا للطيور الكاسرة [...]
ومن فوق هذه الفوضى
ينزل الشرّ بواحد لخير الجميع."[7]
بحسب فولتير "الحرب أمّ الجرائم وكلّ دولة تحاول إلباس جريمتها ثوب العدل. ففي زمن السلم، يُعتَبَر القتل حرامًا [...] أمّا إذا اندلعت الحرب فيصبح القتل بالألوف مباحًا." وكأنّ المعاناة نفسها تخطّ بأحرفٍ من نار مصير البشر.
في القرن التاسع عشر، عاد الأدب إلى جذره الملحميّ. وها هو فكتور هوغو Victor Hugo (18021-1885) في روايته "البؤساء" يعرّف الحروب الوطنيّة والتحريريّة على أنّها وحدها عادلة وكان قد رآها بمنظور الثورة الفرنسيّة. وفي معركة واترلو كتب : "الدم المتصاعد كالدخان، والقبور، والأمّهات الباكيات، هؤلاء هم المدافعون الذين يجب أن نهابهم [...] هناك حين تئنّ الأرض بتأوّهات لا يسمعها إلا العدوّ [...] كان سقوط نابوليون مقرّرًا لأنّه كان يزعج الله."لكنّ الله لم يعد مدبّرًا للحرب التي "تجرّ أماني الناس إلى ركام العِظام"[8].
وفي "شرقيّات" (Orientales) هوغو أشعار مكرّسة للبطولة اليونانيّة. فالشعراء في بلاد اليونان الحديثة كانوا قوّة فعّالة في تقويض أسس الاستعمار. الشاعر سولوموس حمل ثورة الاستقلال. والشاعر أندرياس كالفوس Kalvos Andreas (1792-1869) يصرخ: "إبتعد أيّها العثمانيّ [...] ألا تسمع صراخ الأموات؟ إذا فار دم اليونانيّين مَن يستطيع أن يغلبهم؟"[9].
وما بين الحرب والسلم كما في رواية الأديب الروسيّ ليو تولستوي Léo Tolstoï (1828-1910)، شهد النتاج الأدبيّ غزارةً في رصد مواقع الحربين العالميّتين لشموليّة تجربتهما الإنسانيّة. فرواية "وداعًا" للسلاح للأديب الأميركيّ إرنست همنغوايErnest Hemingway (1899-1961) هي بمثابة عرضٍ لأوضاع الجنود المزرية ودفع المدنيين لثمن الحرب الباهظ.
الهمّ نفسه تجاه الجنود يعبر أحداث رواية الثلج الحارّ سنة 1969 للأديب الروسي يوري بونداريف (1924-)Yuri Bondarev . ففي معركة ستالينغراد يصوّر الجنود وهم يعيشون أجواء الخوف والترقّب بعيدًا عن مبالغات الشجاعة المفرطة التي يصوّرها الإعلام السوفياتيّ.
على مدار الأرض، التجربة الإنسانيّة واحدة وأنشودة الأدب قنبلة تغنّي الأمل وتنفجر من دون أن تقتل. فكيف تُرصَد هذه التجربة الأدبيّة الشموليّة في الشرق المتأجّج نيرانًا؟
حروب الشرق المغترب عن هويّته
في الشرق، كان عصر الانبعاث (القرن التاسع عشر والثلث الأوّل من القرن العشرين) عصرًا حافلاً بالحروب والثورات. ونال الشعر من فنّ وصف الجيوش والمعارك نصيبًا وافرًا فاشتهر فيه الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871)، ومحمود سامي باشا البارودي (1839-1904)، وأحمد شوقي (1868-1932). وجاء شعرهم مقتفيًا للأثر القديم فذكروا ما يحتويه معجم الحرب في لسان العرب من أدواتٍ لفظيّة وأسلحة كلاميّة من رماح ودروع وسيوف، حتّى جاءت حروب النصف الثاني من القرن العشرين فذكروا المدافع والقذائف وسواها.
وكان توفيق يوسف عوّاد في روايته الرغيف (1939) "سبّاقًا "في استعادة أحداث الحرب العالميّة الثانية روائيًّا بعدما شغلت هموم الشعراء النهضويين وشعراء المهجر"[10].
وللصراع العربيّ الإسرائيليّ بعد الحربين حصّته الأدبيّة. ففي تجربته داخل سجن "عتليت" الإسرائيليّ بعد أسره في نكسة 1967، كتب فؤاد حجازي روايته الأسرى يقيمون المتاريس[11] ورواية أخرى[12] هي ملحمة للنصر الذي تلا حرب أكتوبر.
أمّا أشعار محمود درويش فجاءت تُعيد شعبًا بكامله إلى نهم خبز أمّهم، الأرض المحتلّة فلسطين، والشوق إلى قهوتها والتوق إلى لقائها.
دوّامة الحرب أسطوانة ناريّة تتكرّر لازمتها ولعلّ أقساها تلك التي اندلعت بين أبناء الوطن الواحد أسوةً بالحرب الأهليّة في لبنان[13] حتّى ضياع الهويّة. ففي روايتها طابق 99 تناقش الأديبة اللبنانيّة جنى فوّاز الحسن أزمة الهويّة في بلاد المهجر. ومن الواقع الطائفي المشرذم، تسرد روايتها قصّة حبّ نشأت في نيويورك بين شابّ فلسطينيّ مسلم يُدعى مجد نجا بأعجوبة من مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982، وشابّة لبنانيّة مسيحيّة اسمها هيلدا من عائلة منتمية إلى حزب الكتائب اللّبنانيّة وفي هذه المفارقة تتألَّف العقدة.
وما زالت تصدح تلك الأغاني الشعريّة التي نظمها الشعراء في لبنان وهو يرزح تحت وطأة الحرب الأهليّة التي يرفض الكاتب اللّبنانيّ ألكسندر نجّار إضافة صفة "الأهليّة" إليها قائلاً بتهكّم : "وكأنّ الحرب يمكن أن تكون غير أهليّة"[14] مستشهدًا بالكاتب الفرنسيّ فينلون[15] Fénelon (1651-1715): "إنّ الحروب جميعها أهليّة لأنّ الإنسان يحارب الإنسان" فلماذا نحتاج إلى أدب الحرب؟
لماذا نحتاج إلى أدب الحرب؟
نحتاج الى أدب الحرب لأنّنا لا نحتاج إلى الحرب ولأنّه يعبّر عن أهوال التجربة الإنسانيّة المشتركة التي تعانيها الشعوب فما استطاعت تلك المعاناة أن تكبح جماح نزعات الموت، وإذا بنخبة امتلكت الخيال الإبداعيّ والقدرة على رصد خصوصيّة تلك التجربة تدوّنها في مواجهة عبثيّة صراع يعبّر عنها الكاتب اللّبنانيّ ألكسندر نجّار على لسان مقاتل : "أفكّر بعبثيّة حربٍ تخدم مصالح العالم كلّه ما عدا الشعب نفسه ]...] أكرّس حياتي للدفاع عن سكّان لا يكترثون بآلامي. حتّى التاريخ لن يأبه بصراعاتي ]...] فللتاريخ اهتماماتٌ أخرى : مغامرات ومجازفات ذلك السياسيّ أو ذاك، والصفعة التي تلقّاها سياسيّ آخر، والثوب الجديد الذي ترتديه هذه الأميرة أو تلك ]...]"[16]
ولطالما ارتبطت روايات الحرب بالمجاعات التي تلتهم الأجساد وتجعل الناس يقتنصون الرغيف، يتوسّلونه أو يتسوّلونه تشبّثًا بغريزة البقاء. لذلك يحتفظ تاريخ الحرب بوصمة أو صفعة تترك ندوبها على وجه البلد بعدما يتركه مستعمروه أو محتلّوه. فقد يكون ما تركوه، أسوةً بالعثمانيّين، بصمة لوصفة وجبة طعام كان يأكلها الباشوات، هؤلاء أنفسهم الذين علّقوا بين الشفاه مرارة المجاعة وفظاعة المشانق. بين تخمة لقمة وزخمة كلمة ولَحمة يستقرّ طعمها في حُلمة الغذاء الأوّل، يعلق طعم وجبة "داوود باشا" على لسان الشاعر اللّبنانيّ المعاصر جوزيف عيساوي فيكتب فيها شعرًا مطعّمًا بدم اللّغة، منقولاً من متصرّف مستبدّ أو متصرّفَين إلى متصرّف آخر هو القارئ، بمعنى أنّ هذا الشعر حين يُقرَأ لن يعود ملكًا للشاعر، بل يتصرّف به القارئ وتتماهى به مخيّلته :
"اليوم تغدّيت داوود باشا فكأنّي في حضرة جمال باشا.
دوائر اللّحم مطرّزة بالصنوبر وهفيف البصلات.
في بطون الحوامل ووساعة طناجرهنّ حفظ الأجداد وصفة المتصرّف.
لحلاوتها أثر حريّة مشنوق.
أكلتُ الشهداء وشربتُ دمهم وأبدلتُ الأرزة بالأرزّ.
أُخطركم بعمالتي، صيارفة وأصحاب قضايا،
فتفضّلوا الحسوا دمي وتصرّفوا بدم اللّغة وكلّ دم"[17].
************************
ويبدو أنّ الحرب تسقط مضرّجة ب"دم اللّغة" وصريعة قلم لذلك اعتُبِر أدب الحروب انتصارًا وانحيازًا للإنسانيّة، فكما كتب همنغواي: "النخبة المختارة، بما فيها المثقَّفون والكنائس والأحزاب لم ترد الحرب، فماذا فعلت لتمنع الحرب أو لتحدّ منها؟ [...] ألا يزهر حبّ وطن إلا في إبادة أوطان تسعى للدفاع عن نفسها؟ ]...[. حبّ وطني لا يتطلّب منّي أن أقتل النفوس المحبّة لسائر الأوطان بل الاستعانة بها لتحقيق مصلحتنا المشتركة."[18] فهل في دعوة همنغواي هذه مثاليّة حلم متواتر قابع في لاوعي نكران الصراع البشريّ ؟
حين يكون للشعر شريعة وحين يكون للحرب أدبٌ يواجهها، تنتفض الحرب التقليديّة الشعواء من شريعة الغاب لتنتظم ضمن شريعة الآداب تصديقًا لقول الأخطل الصغير : "ما تهدمه السياسة يبنيه الأدب".
* الدكتورة بيتسا استيفانو، أستاذة مُحاضرة في كليّة العلوم الدينيّة ومسؤولة عن الأبحاث في مكتبة العلوم الإنسانيّة في جامعة القدّيس يوسف.
[1] La chanson de Roland.
(أغنية رولان، شعر ملحميّ من القرن الحادي عشر، يُنسَب إلى شخص يُدعى تورولد Turold).
[2] BOSSUET, Jacques Bénigne, Politique tirée de l’Écriture, in Œuvres complètes de Bossuet, Volume 9, Lilles, Ed. Outhenin-Chalandre Fils, 1840, p. 95 الأعمال الكاملة
[3] عبارة للشاعر اللبنانيّ بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير.
[4] ÉRASME Didier, L'Éloge de la Folie, traduit du latin par M. Gueudeville Amsterdam, Ed. François l’Honoré, 1828, p. 173.
(إراسموس، في مديح الجنون.)
[5] La Bruyère, Les caractères, fragment 9.
[6] Œuvres complètes de Voltaire, Lettres philosophiques, Volume 36, Nabu Press, 2012, p.357. (أعمال فولتير الكاملة).
[7] قصيدة مأساة لشبونة لفولتير.
[8] HUGO Victor, Les misérables, in Œuvres complètes, Arvensa Editions, tome 2, p. 1466.
فكتور هوغو، البؤساء، الأعمال الكاملة.
[9] قصائد جديدة .Nouvelles odes
[10] عبده وازن، في مقالٍ نشره في جريدة الحياة : الرغيف - رواية – المجاعة - والنضال :
http://www.alhayat.com/Articles/1223774، الخميس 20 آذار 2014.
[11] فؤاد حجازي، الأسرى يقيمون المتاريس، ]مصر[، دار الشروق، 2008.
[12] فؤاد حجازي، الرقص على طبول مصريّة : ملحمة نصر أكتوبر في عيون محارب، سلسلة "الأدب"، مكتبة الأسرة التي تصدرها الهيئة العامّة للكتاب، 2014.
[13] رفيف رضا صيداوي، النظرة الروائيّة إلى الحرب اللبنانيّة، 1975-1995، دار الفارابي؛ الجزائر: المؤسّسة الوطنيّة للاتّصال والنشر والإشهار (ANEP)، 2003.
[14] NAJJAR Alexandre, La honte du survivant, suivi de Le ciel n’est jamais l’ennemi, Maison Naaman pour la culture, 2ème édition, 1991, p. 21.
ألكسندر نجّار، خجل الناجي من الحرب، يتبعه : السماء ليست أبدًا العدوّ، دار نعمان للثقافة، الطبعة الثانية، 1991، ص 21.
[15] FÉNELON, Les Aventures de Télémaque (1699). مغامرات تليماك
[16] NAJJAR Alexandre, op. cit., p. 21-22.
[17] وردت بإذنٍ من الشاعر اللبنانيّ جوزيف عيساوي، من مجموعته الأخيرة قيد الطبع في دار نلسن وهو بعنوان: "نصف قبلة وفخذ".
[18] HEMINGWAY Ernest, L’adieu aux armes. وداعًا للأسلحة.
تعليقات 0 تعليق