المسيحيّون ليسوا أبدًا من الماضي!
في باريس استطاع معهد العالم العربيّ أن ينظّم معرضًا حول مسيحيّي الشرق بَدأ في الخامس والعشرين من أيلول ويستمرّ حتّى أواخر كانون الثاني 2018، جامعًا ثلاثمائة قطعة نادرة من مختلف أنحاء الشرق والغرب وحتّى أميركا، والجديد فيها أنّها، من قاعة إلى أخرى ومن طابق إلى آخر، تروي حكاية الشعوب المسيحيّة في الشرق الأوسط والأدنى من موارنة وسريان كاثوليك وأرثوذكس وكلدان وأتباع الكنيسة المشرقيّة وروم أرثوذكس وكاثوليك ولاتين وإنجيليّين... وهذا المعرض كان مناسبة أيضًا للرئيس الفرنسيّ إيمانويل مكرون أن يصوّب السياسة الفرنسيّة الحديثة التي كانت تنظر إلى المسيحيّين مجرّد رعايا عليهم أن يتأقلموا مع واقع الأنظمة السياسيّة القائمة في دولهم. إلّا أنّ الفظاعات التي ارتُكبت في حقّهم واستغلال أوضاعهم من جانب بعض الأنظمة، دفع السياسة الفرنسيّة إلى تخطّي تحفّظاتهم والإعلان عن دعم المسيحيّين للحفاظ عليهم ركيزة من ركائز المجتمع الشرق أوسطي.
لنعُد إلى المعرض بحدّ ذاته الذي تحتلّ طبقات ثلاث منه مبنى معهد العالم العربيّ. ما يلفت النظر يكمن في أنّ الآثار الفنيّة المعروضة إنّما تدلّ على حضور المسيحيّين الراسخ في تاريخ المنطقة، وهو حضور تمّ التعبير عنه ثقافيًا بقوّة في مختلف اللوحات والأيقونات والتماثيل والدفاتر والكتب والزجاجيّات المعروضة. هو حضور يُترجم أيضًا التعدّديّة المسيحيّة الكائنة في ذلك الشرق حيث نشهد ولادة المسيح وبشارته، كما نشهد إرهاصات انتشار المسيحيّة في المدن قبل الأرياف وذلك طبيعي. إلّا أنّ المعرض، وإن أظهرَ جليًّا هذه التعدّديّة المسيحيّة المتنوّعة، فهو يظهرها أيضًا وكأنّها جسم واحد يحرّكه نبضٌ واحد، وكأنّ الروح بقي بشكل خفيّ هو ماسك كلّ الأعضاء المتفرّقة. فسِحْرُ الشرق ملتصق بهذه الوثائق التي تروي بصوتٍ عالٍ تاريخًا طويلًا من الجهاد والمعاناة والحزن والاضطهاد إلّا أنّها أيضًا تشهد لإيمان الناس والرعايا والجماعات التي تحلّقت حول إنجيل ربولا أو الآتي من فلورنسا أو من لوحتي موزاييك دورا أوروبوس الآتيَتَيْن من واشنطن.
أنت هنا، في زيارتك المعرض، على خطى مسيحيّين يعيشون تحت الخطر الدائم لكن من دون خوف، بل بالفرح والافتخار لأنّهم استطاعوا التغلّب على الكثير من المخاطر بالرغم من أنّ كثيرين هاجروا أو استسلموا أو أبعدوا. فهذا المعرض لا يروي قصّة الماضي أو إنّه لا يجعل المسيحيّين مجرّد قطعة آثار من الماضي وحسب، بل إنّه يعلن صراحة أنّ من حقّق كلّ هذه التُحف الفنيّة بمختلف أشكالها، ذلك الإنسان لا ينتهي بل إنّ ماضيه هو دافع له أن يبني الحاضر ومداميك المستقبل.
الأب سليم دكّاش اليسوعيّ، رئيس تحرير مجلّة المشرق.
تعليقات 0 تعليق