اللغة العربيّة في روسيا الاتّحاديّة درسًا وتدريسًا واستخدامًا
إنّ اللغة العربيّة من اللغات القلائل التي تعدّ لغة الدين والعبادة إلى جانب كونها لغة الثقافة ولغة التخاطب. وبصفتها لغة الدين تتواجد اللغة العربيّة في أراضي روسيا مستخدَمة في مساجدها على مدى قرون كثيرة. وينبغي لها أن تحظى باهتمام المجتمع العلميّ الروسيّ المعنيّ بالدراسات العربيّة. هذه المقالة تسلّط بعض الأضواء على ما أنجزه علماء معهد بلدان آسيا وأفريقيا بجامعة موسكو الحكوميّة لتحتلّ اللغة العربيّة باعتبارها لغة الدين محلّها في الدرس والتدريس كما احتلّت محلّها في مساجد البلاد وجوامعه.
إنّ المقولة الرئيسة التي نتناولها بالبحث في هذه المقالة قد تبدو للوهلة الأولى قديمة قدم العالم ومعروفة وشائعة على ألسنة العامّ والخاصّ لكنّها ليست كذلك إطلاقـًا بل هي جديدة كلّ الجدّة.. المقولة رباعيّة الألفاظ أحاديّة المدلول، ألفاظها باللغة والعربيّة وتُستعمَل في روسيا، أمّا مدلولها فهو كلّ معالم تواجدها وحضورها في هذه الدولة.
بدايةً نحاول الإجابة عن السؤال الذي قد يحيّر كلّ أو بعض من تعرّف على ما أسلفنا من القول: هل للّغة العربيّة استخدام وتداول في روسيا؟ الحقيقة أنّ مفهوم "اللغة العربيّة في روسيا" مفهوم خاصّ يقابله مفهوم عامّ هو "اللغة العربيّة "، كما أنّ مفهوم "اللغة العربيّة" يكون بدوره مفهومًا خاصًّا يقابله المفهوم العامّ الذي هو "اللغة"، ولإدراك الخاصّ يحسن بنا التوجّه إلى العامّ. فأمّا مفهوم "اللغة العربيّة" فنجد له تعريفًا يفيدنا في بلوغنا مقاصد هذا البحث في تقديم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركيّ سلسلةَ الكتب الصادرة عن معهد تعليم اللغة العربيّة لجامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميّة تحت عنوان "دروس من القرآن الكريم تلاوةً وتفسيرًا" و"الحديث". فقد أبرز العلّامة أربع صفات للّغة العربيّة اتّحدت فيها وأكسبت لها على حدّ تعبيره مكانة كبيرة، ونودّ أن نضيف مكانة خاصّة ربّما تنفرد بها بين سائر اللغات أو معظمها على الأقلّ. فهذه الصفات الأربع هي كونها لغة الدين والعبادة والثقافة والحياة.
دعونا نتساءل الآن: هل كلّ لغة من اللغات الحيّة التي نعرفها تنطبق عليها صفة كونها لغة الحياة أي لغة التخاطب والتفاهم في الحياة اليوميّة ؟ من الطبيعيّ أنّ الجواب يكون بإيجاب. نستمرّ فنسأل أنفسنا وهل كلّ لغة من هذه اللغات هي لغة الثقافة؟ الجواب مثل الجواب الأوّل وإن اختلف حجم الثقافة باختلاف الشعوب وتغاير مدى إسهامها وتأثيرها في الثقافة العالميّة. نستمرّ سائلين وهل كلّ لغة من هذه اللغات تتّصف بأنّها لغة العبادة ؟ ليس بالضرورة فقليلة جدًّا تلك اللغات التي تُستخدم في الصلاة في معابد الله فتتّصف بأنّها لغة العبادة. اللغة الروسيّة مثلًا، وإن كانت لغة الثقافة المعترف بها عالميًّا، لا تُعدّ لغة العبادة لأنّها لا تُستخدَم في المعابد المسيحيّة الأرثوذكسيّة لا في قراءات من الكتاب المقدّس ولا في قول الطلبات أو الأدعية ولا فيما يرتّل باللحن من النصوص الدينيّة. سؤال آخر وأخير نسأله أنفسنا وهل كلّ لغة من هذه اللغات تُعدّ لغة الدين؟ قلائل تلك اللغات التي تُعدّ لغة الدين. إنّها لا يتعدّى عددها عدد أصابع اليد الواحدة واللغة العربيّة منها.
نعود فندعو اللغة العربيّة للاشتراك في الجولة الثانية من برنامجنا "لكلّ سؤال عن علاقتها بروسيا جواب" متوجّهين بالسؤال الآتي هل للّغة العربيّة بصفتها لغة الحياة وجود في روسيا؟ الجواب عن هذا السؤال جوابان يكون الأوّل بالنفي لأنّ اللغة العربيّة لا يتداول بها في مدن روسيا وقراها، ونحن نتجاهل هنا إلى حين استخدامها وسيلة للتخاطب بين العرب القاطنين في روسيا كما يكون الجواب الثاني بالإيجاب لأنّ اللغة العربيّة تؤلّف مادّة يُبحث فيها في مراكز البحث العلميّ والجامعات والمعاهد وتُعلَّم لغير الناطقين بها ممَّن تهمّهم البلاد العربيّة شعوبها وتاريخها وثقافتها ودينها، شأنها في ذلك شأن سائر اللغات الأجنبيّة الغربيّة منها والشرقيّة.
هل للّغة العربيّة بصفتها لغة الثقافة العربيّة من وجود في روسيا ؟ نعم بالمعنى المشار إليه آنفًا، كما أنّ الثقافة التي أداتها اللغة العربيّة تمتاز عن سائر الثقافات بأنّها ثقافة أصليّة أصيلة ذات الأبعاد الإنسانيّة وكبير الأثر في معظم الثقافات التي يعرفها العالم. أضف إلى ذلك أنّ اللغة العربيّة باعتبارها لغة الثقافة تتواجد في روسيا بصورة مباشرة متمثّلة في المنحوتات والمسبوكات والمخطوطات وغيرها من الآثار الماديّة للثقافة العربيّة التي تجدها في روسيا، ليس في عاصمتها موسكو فحسب، بل وفي أنحاء أخرى من البلاد. ومن يتعرّف عليها يتعجّب باتّساع العلاقات بين العرب والروس وعمقها على مدى التاريخ.
وهل للّغة العربيّة بصفتها لغة العبادة والدين من وجود في روسيا؟ نعم بالتأكيد. إنّ اللغة العربيّة بصفتها لغة الدين حاضرة في روسيا منذ حضور الإسلام فيها، وهو حضور لا يختلف في شيء عن حضور "لسان عربيّ مبين" في مساجد البلاد الناطق سكّانها باللغة العربيّة. وذلك لأنّ مصدر هذه العربيّة واحد هنا وهناك هو القرآن الكريم.
فلغة القرآن الكريم بما فيها من مفردات وتراكيب وألفاظ وأساليب ليست بلغة أجنبيّة في روسيا ولكنّها لغة تؤلّف جزءًا لا يتجزّأ من حضارة الدولة الروسيّة إلى جانب اللغة الإسلافيّة التي لا تُستخدم في التواصل اليوميّ بين الأفراد بل تُستخدم لُغةَ الدين والعبادة لدى المسيحيّين الأرثوذكسيّين الأوروبيّين الشرقيّين في معابدهم ومجامعهم وصلواتهم جماعيّة وفرديّة. وما من شكّ في أنّ اللغة العربيّة بصفتها لغة الدين والعبادة ينبغي أن تحظى هي الأخرى بعناية مماثلة لتلك التي تحظى بها اللغة الإسلافيّة في الدرس والتدريس في الجامعات وفي مؤسّسات التعليم الدينيّ. ولذا رأينا نحن القائمين بالدراسات العربيّة في معهد بلدان آسيا وأفريقيا بجامعة موسكو الحكوميّة الذين تسنّى لهم أن تلقّوا تعليمًا جامعيًّا جيّدًا واكتسبوا تجارب وخبرات في تعليم اللغة العربيّة لغير الناطقين بها في إطار تأهيل حملة شهادات البكالوريوس ودرجة الماجستير في تخصّص الاستشراق رأينا أنّه من واجبنا الأخلاقيّ والثقافيّ والإنسانيّ أن نيسّر أمر المسلمين الروسيّين في تعاملهم مع اللغة العربيّة بالقدر الضروريّ الذي يمكّنهم من استماع وفهم ما أنزل عليهم بلسان عربيّ مبين وما يُؤذّن ويُتلى ويقال لهم داخل مساجدهم وحولها، فوضعنا لهم في مجال تدريس اللغة العربيّة برنامجًا تعليميًّا سمّيناه "لغة مصادر الإسلام" يشمل المرحلتين الابتدائيّة والمتقدّمة.
المرحلة الابتدائيّة تبدأ بمستوى الصفر وتهدف إلى إكساب الدارس مهارات القراءة والكتابة والاستماع للقرآن الكريم والمعارف الصرفيّة والنحويّة الضروريّة والكافية لفهم المعاني اللغويّة للآيات البيّنات. وأمّا المرحلة المتقدّمة فتهدف إلى إكساب الدارس مهارتَي القراءة والفهم لأشهر الأحاديث النبويّة ومهارة قراءة المراجع في مواضيع علوم القرآن وفهمها والكلام فيها بالإضافة إلى مهارة فهم الأدعية وَتلاوتها.
ولكلّ مرحلة من مرحلتَي التعلّم بحسب برنامج "لغة مصادر الإسلام" تمّ إعداد الكتب الدراسيّة فللمرحلة الابتدائيّة وضعنا كتابًا سمّيناه "تعلّم قراءة القرآن باللغة العربيّة " يتكوّن من ثلاثة أجزاء تضمّ ستّة وستّين درسًا يعلّم الدارسين لغة القرآن على أساس القرآن، فالقرآن هو الغاية وهو الوسيلة في وقتٍ واحد في كتابنا الدراسيّ هذا.
ومن أهمّ المبادئ التعليميّة التي حاولنا جاهدين اتّباعها في هذا الكتاب الآتية:
- مبدأ التدرّج في الانتقال من موضوع إلى موضوع دراسيّ آخر،
- مبدأ تناول خاصّ في إطار العامّ،
- مبدأ تقديم عرض النموذج اللغويّ على شرحه،
- مبدأ تعزيز ما تمّ استيعابه من الظواهر اللغويّة من طريق كثرة قراءة الآيات التي اختيرت لهذا الغرض،
- مبدأ الجمع بين شرح الصيغ اللغويّة ووظائفها في أداء المعاني،
- مبدأ الجمع بين التفصيل والتعميم في شرح الظواهر الصرفيّة والنحويّة،
- مبدأ عرض مادّة جديدة غير معروفة في إطار القديم المدروس،
- مبدأ عدم استخدام غير المعروف وغير المدروس في قراءة آيات الذكر الحكيم،
- مبدأ الاعتماد على القراءة وسيلةً لتعزيز المعارف والمهارات المكتسَبة.
لكي نبيّن كيفيّة تطبيق هذه المبادئ يكفينا أن نسوق مثالًا بعضًا من درس من كتابنا تعلّم قراءة القرآن الكريم باللغة العربيّة. فالدرس الخامس مثلًا يتضمّن قسمًا صوتيًّا يعرّف الدارس على حرف "ثاء" نطقًا وقراءة وكتابة، وذلك من خلال كلمة "كثيرٌ" التي بقيّة حروفها يعرفها الدارس من الدروس السابقة، وكذلك على حرف "ذال" من خلال كلمة "هذا" التي يعرف الدارس بقيّة حروفها، وعلى حرف "صاد" من خلال "بصيرٌ" وعلى حرف "طاء" في "لطيفٌ"... أربع كلمات جديدة فيها أربعة حروف جديدة = ثماني وحدات من المادّة الدراسيّة الجديدة أصواتًا وحروفًا ومفردات... هكذا يتقدّم الدارس خطوة خطوة مبتعدًا عن الجهل التامّ نحو الإتقان في سماع الكتاب وفهمه وقراءته وتلاوته. كما ويتضمّن الدرس الخامس أيضًا قسمًا نحويًّا يعرّف الدارس على الاسم المرفوع والمنصوب من خلال "اللهُ – اللهَ" و"كبيرٌ – كبيراً" وعلى الحرف الناسخ واسمه المنصوب وخبره المرفوع من خلال "إنّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ"، وعلى لام التأكيد من خلال "إنّ اللهَ لعليمٌ حكيمٌ ". ويتضمّن الدرس الخامس أيضًا قسمًا للقراءة يشمل سبع آيات يتكوّن كلّ منها من "إنّ" واسمها وخبرها.
وللمرحلة المتقدّمة وضعنا كتابًا دراسيًّا آخر سمّيناه "نقرأ الحديث الشريف باللغة العربيّة" يتكوّن من أربعين درسًا يتناول كلّ منها حديثًا من الأحاديث الأربعين. ينقسم كلّ درس إلى ثلاثة أقسام: القسم التمهيديّ يليه نصّ الحديث تليه الأسئلة له. أمّا القسم التمهيديّ فيتناول كلّ مفردات حديث الدرس كلمةً كلمة بجميع صيغها للإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث وأشكالها الإعرابيّة وكلّ تركيبات الحديث من المبتدأ والخبر والفعل والفاعل والمفعولات والصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه والتمييز والاختصاص، وغيرها من المركّبات التي توجد في نصّ الحديث حتّى لا يجد دارس أيّ مجهول له عندما يشرع في قراءة هذا الحديث فيتسنّى له فهم الحديث فهمًا تامًّا.
وثمّة كتابان دراسيّان آخران وضعناهما للمرحلة المتقدّمة أحدهما في لغة الأدعية والآخر في لغة علوم القرآن.
سبق أن أشرنا إلى أنّ برنامج "لغة مصادر الإسلام" جاء لتلبية حاجات المسلمين إلى معرفة لغة دينهم وعبادتهم في بلاد لا ينطق سكّانها بالعربيّة. والجدير بالذكر أنّ الاهتمام باللغة العربيّة باعتبارها لغة الإسلام دينًا وثقافة وحضارة في بلاد مثل روسيا لا يقتصر على المسلمين من دون غيرهم. فالمسلمون في روسيا يرتبطون بغير المسلمين ارتباطات شتّى من القربى والجوار والزمالة والصداقة وغيرها ممّا يوسّع دائرة المهتمّين بلغة القرآن والسنّة بصورة ملحوظة. فالاهتمام بها قائم أيضًا في الأوساط المسيحيّة الأرثدوكسيّة، وهو نابع من الرغبة في الحفاظ على المستوى العالي من التفاهم والتفاعل بين الديانتين الرئيسيّتين اللتين اكتسبتا خبرة مثيرة للإعجاب للتعايش العقائديّ والعباداتيّ والتعاون في مختلف مجالات الحياة الروحيّة والماديّة، وهي خبرة لا ترضي من يعطش الماء العكر من مستنقع الفرقة والفتنة والانقسام. ومن دوافع اهتمامهم بالقرآن والسنّة استمرار سعيهم نحو التعمّق في معرفة الذات والذي لا يتحقّق إلّا من خلال معرفة الغير. أضف إلى ذلك أنّ هناك اتّساعًا مضطردًا في فئة المثقّفين المدركة أنّ الدين هو أساس الثقافات التقليديّة التي عليها قامت وستقوم الحضارة الإنسانيّة. وأمّا الثقافة المفتعلة عديمة الأصل الدينيّ فهذه لن تدوم لأنّها معبّرة عن مصالح وأغراض آنيّة لفئة أو شريحة أو طبقة لا يمكن أن تدوم.
قائمة المؤلّفات ذات الصلة بموضوع المقالة التي نلحقها بها تبيّن مدى إسهام القائمين بالدراسات الإسلاميّة في روسيا في تلبية حاجات المجتمع الثقافيّة والروحيّة:
В.В. Лебедев «Учись читать Коран по-арабски». Части 1-3.
فلاديمير ليبيديف، تعلّم قراءة القرآن باللغة العربيّة في ثلاثة أجزاء
В.В. Лебедев, А.Ф. Садриев «Арабский язык Корана».
فلاديمير ليبيديف، أرسلان صدرييف اللغة العربيّة للقرآن الكريم
В.В. Лебедев «Читаем хадисы по-арабски».
فلاديمير ليبيديف، نقرأ الأحاديث الشريفة باللغة العربيّة
В.В. Лебедев, Г.Р. Аганина «Язык мусульманских молитв».
فلاديمير ليبيديف، لغة أدعية المسلمين
В.В. Лебедев «Арабский язык корановедения».
فلاديمير ليبيديف، اللغة العربيّة للكتب في علوم القرآن
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربيّة وآدابها في معهد بلدان آسيا وأفريقيا بجامعة موسكو الحكوميّة [email protected]
تعليقات 0 تعليق