إنّ الحبّ ينفتح على عالم مشترك متجسّد

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الدكتورة باسكال تابت

الولادة مع الآخر معرفة سابقة للمعرفة

"أنا في الأرض نزيلٌ فلا تحجب عنّي وصاياك"، نقرأ في المزمور ١١٩: ٩. يختبر كلّ إنسان هذا الشعور بالغربة، وتشعر الأنا بأنّها متروكة لذاتها الغريبة "الضيّقة جدًّا لتملك ذاتها"، بحسب تعبير القدّيس أَوْغسطينُس. وإذا كانت الأنا غريبة عن ذاتها، فكم بالأحرى يكون الآخرُ غريبًا عنها. نتساءل انطلاقًا من هذا الواقع: من هو الآخر في نظر الأنا؟ وهل تستطيع الأنا التي تجهل ذاتها أن تعرف الآخر؟

لقد أعطت الفينومينولوجيا التي تحتلّ فيها مسألةُ الذات والآخر مكانةً أساسيّة أجوبةً عن هذه الأسئلة. لا أستطيعُ أن أبلغ ذاتي عينها إلّا من خلال الآخر الذي أبلغه بطريقة مختلفة، بل متعارضة مع المنطق الطبيعيّ، أي منطق العالم الذي يبقى الآخر فيه هو الغريب في نظري. أمّا بحسب المنطق الفينومينولوجيّ فإنّه ينكشف لي أقرب من ذاتي إلى ذاتي ويجعلني معطًى ذاتي من خلاله. يختلف هذا المنطق لأنّه يقلب قُطبَي القصديّة والحَدْس. إذا كانت معرفة الموضوع مرتبطة بالقصديّة أي إذا كنتُ أستطيع فهمه وتكوينه انطلاقًا من وعيي الذي يتوجّه إليه ويحويه، فمعرفة الآخر لا تخضع لهذه المعرفة القصديّة القائمة على فكر الأنا، وذلك لأنّ الآخر يختلف عن الموضوع ويُعطيني ذاته انطلاقًا من ذاته، وكونه كائنًا يتأثّر Pâtir ويتخطّى بفيض حدسي حقل قصديّتي. يدعوني هذا الآخر الذي يكشف ذاته لي إلى المسؤوليّة وإلى الشفقة وإلى الحبّ.        

بحسب الفيلسوف الفرنسيّ المعاصر إيمانويل لڤيناس Emmanuel Levinas، ينكشف الآخر لي من خلال وجهه، بل ينكشفُ وجهًا لا يحدّه أيّ تصوّر. وهو ينكشف بعريه وفقره وضعفه وأيضًا بجلاله وتعاليه، ويفتح الباب لعلاقة لا مكانيّة ولا أفهوميّة"[1]. ليس وجهُ الآخر "مرئيًّا"، بل هو بحسب تعبير لڤيناس، "ما لا يمكن أن يُصبح محتوًى يشمله فكركم، فهو غير قابل للاحتواء، ويقودكم إلى أعلى. وبهذا فإنّ وجه الآخر يُخرجه من الكينونة بما هي مُلازمة للمعرفة"[2]. يكتب لڤيناس في هذا الصدد: "عندما ترى أنفًا، عينَيْن، جبينًا، ذقنًا وتستطيع وصفها تتوجّه إلى الآخر كما إلى موضوع. إنّ أفضل طريقة للقاء الآخر هي ألّا نلاحظ حتّى لون عينيه! عندما نلاحظُ لون العينَيْن لا نكون في علاقة اجتماعيّة بالآخر. يمكن أن يسيطر الإدراك الحسّيّ على العلاقة بوجه الآخر، ولكن ما هو وجه بشكل خاصّ لا يُختَزَل بذلك"[3]  ويكتب أيضًا: "نسمّي وجهًا الطريقة التي يقدّم الآخر نفسه من خلالها متخطّيًا فكرة الآخر فيّ. لا تكمن هذه الطريقة في تمثيله موضوعًا Thème تحت نظري، في امتداده كمجموعة من الصفات التي تكوّن صورة. إنّ وجه الآخر يَهدم في كلّ لحظة الصورة البلاستيكيّة Plastique التي يتركها فيّ ويتجاوزها"[4]. من هنا نستخلص أنّ معرفة الآخر ولقاءه يشترطان عدم موضَعَته، أيْ عدم اختزاله بموضوع من موضوعات العالم. يرفض لڤيناس أن يرى في الآخر "كائنًا-هنا" مرميًّا أمامي في عالم يسيطر فيه قلق الـ"هناك"[5]، الذي أقام لڤيناس قطيعة معه في كلّ أعماله من خلال العلاقة البينإنسانيّة Interhumaine.

يبدأ أوّل خطاب في ظهور Épiphanie وجه الآخر الذي يقول لي: "لن تَقتُل أبدًا"، وهذا أمرٌ أخلاقيّ، وصيّةٌ تجعل منّي مسؤولًا بصيغة المتكلّم، بصيغة الأنا. إنّ كلمة الوجه الأولى هذه هي قولٌ dire، والقول بحسب لڤيناس يعني أنّي أردّ على وجه الآخر ولا أبقى هنا متأمِّلًا  فيه، وأن أردّ عليه يعني أن أصبح مسؤولًا عنه. هنا لا أعود مسؤولًا عمّا أفعل، بل أصبح "مسؤولًا-من أجل-الآخر"، مُجيبًا: "ها أنذا". وهذه الـ"ها أنذا" لا تنتظر تبادليّة ولا تتطلّبها. أنا أذهب إلى نجدة الآخر من دون أيّ مقابل، وهذه المسؤوليّة التزام Engagement، وذلك لأنّي، وبحسب تعبير لڤيناس، "مختارٌ لذلك" ولا يمكن أحدًا أن يحلّ مكاني في هذه المسؤوليّة، في حين أستطيع أن أحلّ محلّ الجميع. في هذا الإطار يستعيد لڤيناس قولًا لدوستويفسكي في كتابه الإخوة كرامازوف: "نحن جميعنا مسؤولون عن كلّ شيء وعن الجميع أمام الجميع" مضيفًا: "وأنا أكثر من الآخرين".

من خلال العلاقة بالآخر هذه يحدّد لڤيناس الذاتيّة Subjectivité. إنّها تُخرج الأنا من جمودها ومن تلاؤمها وذاتها أيْ من أنانيّتها. هنا تصبح الذاتيّة مسؤوليّة، تخرج من منفاها وتصبح جوابًا: "أن أكون أنا يعني منذ ذلك الحين ألّا أتمكّن من الهروب من هذه المسؤوليّة، كما لو أنّ كلّ صرح الخليقة يقوم على كتفيّ"[6]. تنبثق الذاتيّة من هذه العلاقة بالآخر، من هذه المسؤوليّة التي تُفرغ الأنا من إمبرياليّتها وتثبّتها في إنّيتها. نعبر مع لڤيناس من الأنطولوجيا إلى الأخلاق، إلى همّ الآخر؛ فأن أكون أنا يعني ألّا أستطيع الهروب من هذه المسؤوليّة. ولأنّ في هذا الآخر حدسًا لا يتلاءم والقصديّة ولا يُحتوى، يقول لڤيناس: "لقد سمّينا العلاقة التي تربط الأنا بالآخر فكرة اللامتناهي". هكذا تخرج الذات من النسبيّ وتردّ عن المطلق. 

وإذا كان لڤيناس يحدّد الذاتيّة بالمسؤوليّة فإيمانويل هوسّيه [Emmanuel Housset  [7 يعتبر أنّ للذات دعوة، إنّها مدعوّة إلى الشفقة التي تسبق الـ"أنا موجود". إذا كانت الشفقة بحسب المنطق الطبيعيّ "ضعفًا مرضيًّا"، إذا كانت انفعالًا يولد وينطفئ ببرهة، وإذا كانت حتّى أنانيّة تعزّي ذاتها وهي تبكي ألم الآخر لتتفادى أن ترى ألمها وتبكيه، فهي بحسب المنطق الفينومينولوجيّ، وعلى حدّ تعبير إيمانويل هوسّيه: "النمط الأساسيّ للوجود-إلى جانب-الآخر"[8]، "إنّها انفتاح على عالم البشر تسبق أيّ معرفة وأيّ إرادة"[9]. للشفقة إذًا بعد يسبق الفكر وغير قصديّ. ترى الشفقة في الآخر قريبي، من يجب أن أنتبه إليه، ترى فيه الذي أنفتح عليه بدلًا من التسليم لألمي الخاصّ. فالشفقة بحسب إيمانويل هوسّيه "تخلٍّ أصليّ"[10]، تتخلّى فيه الأنا عن ذاتها في سبيل الغيريّة، وهكذا تصبح الإنيّة علائقيّة. يكتب إيمانول هوسّيه في هذا الإطار: "إنّ ضعف الإنسان، إنّ هشاشته الجوهريّة، هي المكان الذي يستطيع فيه الخروج من ذاته ليكون مصغيًا إلى الآخر"[11]. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الهشاشة هي في آن معًا قوّة الإنسان القادر على الخروج من وحدانيّة ذاته ليذهب نحو الإنسان الآخر. من خلال الشفقة تصبح الأنا شاهدة على ألم الآخر،  وتصبح شاهدًا فاعلًا. تبقى الشفقة شعورًا داخليًّا غير أنّها تحمل في ذاتها انفتاحًا على الغيريّة يهدم كلّ شكل "غير شخصانيّ" لعلاقةٍ خارجانيّة هي في الواقع غياب علاقة. بتحديده الشفقة يتعارض إيمانويل هوسّيه وداخلانيّة مغلقة ومنغلقة على ذاتها ليفتح على "داخلانيّة منفى" تختبر فيها الذات ذاتها عاجزةً عن احتواء ذاتها وتائقة إلى الغيريّة. لا يعود الآخر هنا مجرّد موجود في هذا العالم، فهذه الصبغة الأساسيّة للوجود التي هي الشفقة لا تسأل الآخر: مَنْ هو؟ ومن أين يأتي؟ بل تستقبله وتنفتح على "جماعة حقيقيّة" تبلغ الذات فيها ومن خلالها تمامها. يتعلّق الأمر هنا في العيش معًا الذي لا سبيل له إلّا في اختبار الغيريّة. إنّه "عيش من أجل الآخرين ومن خلال الآخرين، [وهذا العيش] هو المعنى الأصليّ لتجسّدنا والذي يكشفه الاختزال الأخلاقي"[12].

لا تبلغ الشفقة ولا المسؤوليّة-من أجل-الآخر ذروتهما إلّا بالحبّ الذي يخرج هو أيضًا بدوره من المنطق الطبيعيّ الذي يعتبره مجرّد إحساس، مجرّد ضعفٍ عاطفيّ وأنطولوجيّ، مجرّد بحثٍ عمّا يملأ فراغًا وجوديًّا أو وحدة مؤلمة. إنّ الحبّ صبغة عاطفيّة أساسيّة وجوهريّة للوجود، إنّه فعل يذهب نحو الآخر من دون المطالبة بالمبادلة، وينفتح على عالم مشترك متجسّد، عالمٍ يتأثّر فيه كلّ واحد بالآخر ويشعر بذاته من خلال الآخر. إنّ الحبّ مشاركةُ الآخر والتأثّر به، إنّه يفتح عيوننا على الآخرين وعلى معرفةٍ تسبق كلّ معرفة فكريّة وقصديّة وعقلانيّة، وتسبق كلّ فكر لأنّها ولادة مع الآخر Co-naissance أصليّة Originaire. يقول إيمانويل هوسّيه في هذا الصدد: "الحبّ معرفة لأنّه يتأصّل في حياة مشتركة مصنوعة من أفراح وآلام (...) في جماعة حياة كهذه، أكون حيث يقودني ما يحبّ فيّ، كما حيث أنا محبوب، وكلّ فردانيّة ليست تخصيصًا لا معنى لها إلّا في ما يتعلّق بجماعة الحبّ هذه. ليس العقل أوّلًا هو ما يجمع البشر، بل الحبّ المشارك في الألم والفرح"[13]. ويظلّ لقاءُ الإنسانِ الآخرَ مستحيلًا من دون هذا الحبّ.

يبقى أن نقول إنّ هذا الحبّ وهذه الشفقة وهذه المسؤوليّة-من أجل-الآخر تتأصّل في الحياة غير المرئيّة التي "تُوَلّد كلّ حيّ"، بحسب مفهوم ميشال هنري Michel Henry، في هذه الحياة التي هي في جوهرها مشاركة، وهي تختبر ذاتها وتفهمها، وتحوي ألمنا وفرحنا وتدعونا إلى مشاركة الآخر في ألمه وفرحه، وإلى الدخول في علاقة به تلغي كلّ علاقةٍ من غريب بغريب لتجعلنا نحيا القرب. ولا مجال لهذا الرابط ولهذه العلاقة إلّا في قلب الحياة، وذلك لأنّ "جوهر الجماعة هو الحياة. إنّ كلّ جماعة هي جماعة حياة"، إنّها تأثّر-مع Co-pathos يفوق العقل والتعبير.  

 

*     الدكتورة باسكال تابت، متخصّصة في الفلسفة الغربيّة المعاصرة – الفينومينولوجيا. أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانيّة، وفي جامعة القدّيس يوسف، وجامعة الروح القدس – الكسليك، وفي الجامعة الأنطونيّة.

1     Emmanuel LEVINAS, Le temps et l’autre, Paris, PUF, «Quadrige», 2007, p.75. 

ترجمة شخصيّة، وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ الترجمات الواردة في هذا النصّ هي شخصيّة.          

2 Emmanuel LEVINAS, Éthique et infini. Dialogues avec Philippe NEMO, Paris, Le Livre de Poche, «Biblio essais», 2008, p. 81.

3   المرجع نفسه، ص. 80.

4 Emmanuel LEVINAS, Totalité et Infini. Essai sur l'extériorité, Paris, Le Livre de Poche, 2006, (coll. Biblio-essais), p. 21. 

5   تجدر الإشارة إلى أنّ الـ"هناك" ترجمة لتعبير هايدغر «il y a» الذي عارضه لڤيناس.

يقول:" هناك، عمومًا، من دون أن نهتمّ بما هناك، من دون أن نتمكّن من تحديد اسمٍ لهذه العبارة. هناك، شكل غير ذاتيّ، كما هناك شتاء أو هناك حرّ". De l’existence à l’existant, p. 95.       

6 Emmanuel LEVINAS, Humanisme de l’autre homme,Paris, Le Livre de Poche, «Biblio essais», 1972, p. 53. 

7   أستاذ محاضر في جامعة كان Université de Caen  في فرنسا. له مؤلّفات عديدة:

Personne et sujet selon Husserl, Paris, PUF, 1997; Husserl et l’énigme du monde, Paris, Éditions du Seuil, 2000; L’intelligence de la pitié. Phénoménologie de la communauté, Paris, Les éditions du Cerf, coll. «La nuit surveillée», 2003; La vocation de la personne. L’histoire du concept de personne de sa naissance augustinienne à sa redécouverte phénoménologique, Paris, PUF, coll. «Épiméthée», 2007; L’intériorité d’exil. Le soi au risque de l’altérité, Paris, Les éditions du Cerf, coll. «La nuit surveillée», 2008; Husserl et l’idée de Dieu, Paris, Cerf, coll. «Philosophie & théologie», 2010. 

8   Emmanuel HOUSSET, L’intelligence de la pitié. Phénoménologie de la communauté, préface par Jean-Luc MARION, Paris, Cerf, «La nuit surveillée», 2003, p. 140.

9    Idem.

10 Ibid., p.40.

11 Ibid., p. 41.

12 Ibid., p. 184.

13 Ibid., p. 141.

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق

الأكثر قراءة

الذات والعهد ولبنان

دولة لبنان الكبير 1920 – 2021

الوجه المفقود للمسيحيّين في سورية

الأطفال وصعوبات التعلُّم.

شفاء القلب.

الطاقة الخلّاقة للمعاناة

إختر الحياة

لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟

من الصدق إلى الحقيقة

حبّ مُتفانٍ لأرض مُهملة

فنُّ العيش بتناغم

لماذا أخشى أن أحبّ؟

سائحة

ثق فتتجدّد

السعادة تنبع من الداخل

رحلة في فصول الحياة

القرار - إتّباع المسيح في حياتنا اليوميّة

أسرار الناصِرة

العائلة بين الأصالة والحرّيّة

نحو حياة أفضل (5)

الأيادي الضارعة

موعد مع يسوع المسيح

شبيبة متمرّدة

من يهديني؟

لا أؤمن بهذا الإله

اليقظة

حبّ بلا شروط

في بداية الحياة فرح ورجاء

الشعور بالرضا

في سبيل لاهوت مسيحيّ للأديان

دليلُكَ لفهم الأيقونات.

على درب الجلجلة

المنجد

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

الكتاب المقدس - ترجمة جديدة (حجم وسط)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)