الفيلسوف اللبنانيّ كمال يوسف الحاج (1917-1976)

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ

القوميّة اللبنانيّة في فكر كمال يوسف الحاج

تتكرَّرُ في لبنان دوافعُ أزماته الوطنيّة منذ ولادته دولةً مستقلّةً، وإن اتَّخذت أشكالًا مختلفة تبعًا لتبدّل معطيات المشهد الداخليّ وتغيّر الأوضاع الإقليميّة المتداخلة في صياغة هذا المشهد. وقد تُفيد العودة إلى المفكّرين الذين سبقوا أن بحثوا عن حلولٍ تُرسي استقرارًا وجوديًّا لا يزال غيابُه يؤرق اللبنانيّين، إذ إنّ في أعمالهم ما يُنير زوايا كثيرة من هذه المسألة الشائكة. وفي هذا السياق، نتوقّف على القوميّة اللبنانيّة كما فهمها الفيلسوف كمال يوسف الحاج (1917-1976)[1].

من المهمّ الإشارة، بدايةً، إلى تيّارات القوميّة العربيّة والقوميّة السوريّة والقوميّة الصهيونيّة التي شكَّلت تهديدًا للكيان اللبنانيّ الحديث في خمسينيّات القرن الماضي وستّينيّاته، وقد واجهها فيلسوفنا من خلال تطوير فكرة القوميّة في بُعدها الخصوصيّ في مؤلَّفَين أساسيَّين هما: في فلسفة اللغة (1957) والقوميّة ليست مرحلة (1959)؛ ومن ثمّ، في بُعدها اللبنانيّ خصوصًا في فلسفة الميثاق الوطنيّ (1961)، بغية الدفاع عن الكيان اللبنانيّ ونهائيّته.

أوّلًا - منطلقات القوميّة

يتّخذ كمال يوسف الحاج من اللغة مدخلًا لتناول مسألة القوميّة. فاللغة في رأيه وسيلة إلزاميّة يستخدمها الإنسان ليحوز كيانه؛ إذ إنّها لغة وجدانه. وفي الوقت عينه، هي لغة تواصله مع باقي المواطنين وتفاهمه معهم. فالإنسان يبقى كائنًا اجتماعيًّا يحتاج إلى نسج علاقات بالآخرين، بدءًا بمجتمعٍ معيّن. لذا، فإنّ الإنسان كائنٌ قوميّ بقدر ما أنّ اللغة لغةٌ قوميّة. لا يعني هذا التعريف، بالطبع، انغلاق الإنسان على مجتمعه الذي يمكّنه من التأنسن الكامل بفضل خصوصيّته؛ فالإنسان ينفتح على الإنسانيّة مثلما ينفتح مجتمعه على مجتمعات أخرى، على أنّ هذا الانفتاح لا يعني إلغاء الحدود بالكامل، أو الذوبان في الشموليّة. فكما أنّ الإنسان يرتبط جسديًّا بالزمان والمكان، وروحيًّا بما هو متسامٍ عن الزمان والمكان - بحيث لا يمكنه الاستغناء عن أيٍّ من البُعدَين - فكذلك لا يمكن المجتمعَ الخاصّ أن ينفتح على الإنسانيّة على نحوٍ يلغيه. فبقدر ما أنّ الانفتاح يُقصي خطر القوميّة المنغلقة على نفسها أو المتزمّتة، فإنّ التطرّف يُلغي القوميّة الحاضرة بديهيًّا في وجدان الإنسان. وخلاصة القول إنّ الإنسان، في الوقت عينه، كائنٌ قوميّ وإنسانيّ؛ والأمر نفسه ينطبق على مجتمعه. وتبقى اللغةُ القوميّة في صميم هذا المنطق. فمن ميزاتها أنّها اللغة الأمّ وهي لغة واحدة، إذ لا يمكن أن يكون هنالك لُغتَا أمّ، على خلاف الثنائيّة اللغويّة التي تكلّم عليها ميشال شيحا، وطوّرها لاحقًا الأب سليم عبو. فعند كمال يوسف الحاج، لا يمكن مجتمعًا أن يعرف الاستقرارَ والنموّ إذا كان فيه لغتَان أصليَّتَان، من دون أن يعني هذا عدم تعلّم لغات أجنبيّة؛ فهذه مهمّة تساعد على التربية وتكمّلها.

انتقد كمال يوسف الحاج مَنْ سمَّاهم بــ "المرحليّين" الذين ادَّعوا أنّ القوميّة مرحلةٌ يمكن تجاوزها، بحيث يتمّ الانتقال إلى مرحلة اللاقوميّة. فشدّد على أنّ القوميّة تشبه العائلة التي تتطوّر من دون أن تضمحلّ. فرباط العائلة يبقى قائمًا، وهكذا القوميّة تبقى قائمةً بالرغم من أنّها عرفت أشكالًا مختلفة في الماضي. ودورها يبقى هو هو، وخلاصته أنسنة الإنسان. وبالتالي، فالقوميّة السليمة لا تناقض الإنسانيّة الشاملة، بل تخدمها بصفتها قوميّة إنسانيّة. ليس هنالك إذًا تخلٍّ عن القوميّة، بل تبدّل في الشعور القوميّ.

 

ثانيًا - أسس القوميّة اللبنانيّة

عندما يأتي الكلام على اللغة المطبوعة فطريًّا في وجدان الإنسان اللبنانيّ وفي مختلف ظواهره الإنسانيّة والاجتماعيّة والروحيّة في الأطر الزمانيّة والمكانيّة الخاصّة، يتّضح أنّ المقصود هو اللغة العربيّة الفصحى؛ إذ إنّها اللغة القوميّة الوحيدة. ولكنّ فيلسوفنا لم يربط اللغة العربيّة بالقوميّة العربيّة، بل ربط تلك اللغة بالقوميّة اللبنانيّة. ذلك أنّ القوميّة تقوم على عناصر مترابطة بعضها ببعض، لا يمكن الاستغناء عن أيٍّ منها، وهي: الأرض التي هي أشمل من مجرّد تحديدٍ جغرافيّ وضعه بعضهم اعتباطيًّا، بل حنين الإنسان إلى موطنه؛ والاقتصاد الذي يشدّ الروح إلى الجسم (وكلاهما يؤلِّفان الوحدة الطبيعيّة)؛ والتاريخ الذي يرسم ملامح هويّة الشعب، واللغة (ويؤلِّفان الوحدة الإنسانيّة أو المجتمع). وبكلام آخر، لا يمكن الادّعاء، مثلًا، بأنّ اللغة العربيّة تكفي وحدها لتؤسِّس قوميّة عربيّة، أو أنّ التاريخ وحده يكفي لذلك. فمثل هذه المقاربة المجتزأة تُفسد مفهومَ القوميّة.

وفي ضوء هذه المقاربة النظريّة، يرى الفيلسوف، من ثمّ، أنّ القوميّة تكتمل في دعوتها السياسيّة، إذ تُظهِّر حقّها في وحدة كيانيّة سياسيّة تتجسّد في دولة. وبالتالي، ترتبط القوميّة حُكمًا بدولة معيَّنة، وترتبط الدولة حُكمًا بقوميّة. لذا، لا يمكن اعتبار الكيانات السياسيّة المتعدّدة القائمة في المجتمع، مثل المجتمع اللبنانيّ، قوميّات لأنّها لم تتجسّد في دُول.

من الواضح، إذًا، أنّ دولة لبنان ليست مجرّد صنيعة الاستعمار؛ إنّها تجسّد قوميّة بمعناها الواسع: الأرض والاقتصاد والتاريخ واللغة. على أنّ هذه القوميّة تُفهم في ضوء الميثاق الوطنيّ. ذلك أنّ لبنان أصبح دولةً في العام 1943، وترافق هذا الحدَث مع إعلان الميثاق الوطنيّ الذي عبَّر هو نفسه عن الدولة المعلَنَة. وبكلام آخر، إنّ قوميّة اللبنانيّين تأسَّست على الميثاق الوطنيّ، وتكمن عظمتُها في أنّها قوميّة طائفيّة.

ثالثًا - فلسفة الميثاق الوطنيّ

بغية إبراز أصالة هذه القوميّة الخاصّة، ينطلق الحاج من اعتبار الإنسان كائنًا دينيًّا بالفطرة، والدّين يتجلّى حُكمًا في الحضور الاجتماعيّ. ولهذا السبب، ليس ثمّة من إلحاد، إذ ليس من تفسير للعالم من دون دين، وليس من مكان للعلمانيّة في مفهوم الدولة التي تجسّد الوحدة الاجتماعيّة. إذ يمكن تطبيق العلمانيّة في الحقل الإداريّ، ولكن ليس على مستوى الدولة نفسها.

في نظر كمال يوسف الحاج، إذًا، ليست الطائفيّةُ حالةً سلبيّة، بل ترتبط بالدّين ارتباطًا وثيقًا، وهي حقيقة تجلّيه. فالطائفيّة تتمثّل بالطقوس والرُّتَب وسائر الشعائر التي تُعبّر عن جوهر الدّين. كما أنّها ليست تعصّبًا أو انغلاقًا على الذات، بل تنفتح على صياغة القوميّة الواحدة. ومن هذا المنطلق، نحَت فيلسوفنا لفظة "نصلاميّة" للدلالة على واقع القوميّة اللبنانيّة بصفتها زواجًا حضاريًّا بين النصرانيّة والإسلام؛ وبالتالي، ركيزة أساسيّة من ركائز الميثاق الوطنيّ ورسالة لبنان الحضاريّة.

ففي رأيه، إذًا، يستحيل إلغاء الطائفيّة من البُنى الوطنيّة اللبنانيّة، لأنّ لبنانَ في صميمه طائفيّ. فبقدر ما أنّ الميثاق الوطنيّ نهائيٌّ وليس مرحليًّا كما يدّعي بعضهم، فالطائفيّة أيضًا نهائيّة. وانطلاقًا من هذه النهائيّة، يفهم لبنانُ نفسَه ويدخل في علاقات أخوّة بالبلدان العربيّة التي يلتزم قضاياها المحقّة، وفي مقدّمها القضيّة الفلسطينيّة الناتجة من المشروع الصهيونيّ الذي حوّل المعركة إلى صراع دينيّ هدفه استعادة "أرض الميعاد".

خلاصة

بصرف النظر عن تحدّيات التيّارات القوميّة المختلفة التي رسمت الإطار الفكريّ الذي واجهه كمال يوسف الحاج في خمسينيّات القرن المنصرم وستّينيّاته من خلال سعيه لإرساء الأسس الفلسفيّة للقوميّة اللبنانيّة الميثاقيّة، وبصرف النظر عن صحّة مقولته بضرورة لغة قوميّة واحدة أو عدم صحّتها، فإنّ عمله الفكريّ يُلقي الضوء على إشكاليّة مستمرّة تتمثّل بالطائفيّة وارتباطها بالكيان اللبنانيّ ونهائيّته. وفي الواقع، يصبّ مشروع فيلسوفنا في الاتّجاه الذي رسمه ميشال شيحا، ويقوم على قناعة تقول بأهميّة الميثاق الطائفيّ لاستمرار لبنان الدولة، إلّا أنّ الحاج تجاوز ميشال شيحا عندما اعتبر أنّ الطائفيّة جوهر لبنان، وقوميّة لبنان طائفيّة بامتياز، ساعيًا إلى إبراز إيجابيّات الأولى. غير أنّ هذا الاستنتاج يُبيِّن حدود طرحه، ذلك أنّ مسار الأحداث منذ الاستقلال إلى اليوم، يُظهر أنّ الطائفيّة التي لا يمكن إنكار ترسُّخها في أذهان اللبنانيّن، ليست تجلّيًا للطقوس والرُّتَب والشعائر الدينيّة، بل حالة توظِّف هذه الأمور لحسابات سياسيّة فئويّة وشخصيّة وإيديولوجيّة، وبالتالي تُضعف الأديان نفسها، إذ تهمّش رسالاتها السماويّة والروحيّة والأخلاقيّة. إضافة إلى ذلك، تمنع الطائفيّةُ التحوّل الديموقراطيّ الحقيقيّ الذي يعني انعتاق المواطن من التبعيّة الطائفيّة ومستلزماتها. إذ ليس من مكانٍ للكلام على "المواطن الفرد الحرّ" في النظام الطائفيّ، بل على "تابعٍ" لجماعته رغمًا عن أنفه.

بعض المراجع

- كمال يوسف الحاج، 1961، فلسفة الميثاق الوطنيّ، بيروت: مطبعة الرهبانيّة اللبنانيّة.

- كمال يوسف الحاج، 1967، في فلسفة اللغة، طبعة جديدة، بيروت: دار النهار.

- كمال يوسف الحاج، 1974، موجز الفلسفة اللبنانيّة، جونيه (لبنان): مطابع الكريم.

 


*         مدير دار المشرق ومجلّة المشرق

[1]   ولد كمال يوسف الحاج العام 1917. تلقّى دروسه الابتدائيّة والثانويّة في مدرسة الرهبان اليسوعيّين ببيروت، ومن ثمّ درس الآداب في الجامعة الأميركيّة ببيروت، وحصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة السوربون العام 1950. عُيِّن مديرًا لقسم الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة. اغتيل العام 1976.

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق

الأكثر قراءة

الذات والعهد ولبنان

دولة لبنان الكبير 1920 – 2021

الوجه المفقود للمسيحيّين في سورية

الأطفال وصعوبات التعلُّم.

شفاء القلب.

الطاقة الخلّاقة للمعاناة

إختر الحياة

لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟

من الصدق إلى الحقيقة

حبّ مُتفانٍ لأرض مُهملة

فنُّ العيش بتناغم

لماذا أخشى أن أحبّ؟

سائحة

ثق فتتجدّد

السعادة تنبع من الداخل

رحلة في فصول الحياة

القرار - إتّباع المسيح في حياتنا اليوميّة

أسرار الناصِرة

العائلة بين الأصالة والحرّيّة

نحو حياة أفضل (5)

الأيادي الضارعة

موعد مع يسوع المسيح

شبيبة متمرّدة

من يهديني؟

لا أؤمن بهذا الإله

اليقظة

حبّ بلا شروط

في بداية الحياة فرح ورجاء

الشعور بالرضا

في سبيل لاهوت مسيحيّ للأديان

دليلُكَ لفهم الأيقونات.

على درب الجلجلة

المنجد

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

الكتاب المقدس - ترجمة جديدة (حجم وسط)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)