لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الدكتورة رولا تلحوق - تعريب كلير بوناصيف

الصور الذهنيّة لدى الشيعة والموارنة في لبنان

بيّنت الدراسة التي أجريتها بين العامَيْن 2005 و2011 في الضاحية الجنوبيّة لمدينة بيروت على طائفتَيْن من الطوائف الدينيّة في لبنان، الموارنة والشيعة، أنّ حياة معتنقيها تتمتّع نوعًا ما بجوانب عديدة، منها الدينيّ والطائفيّ والمدنيّ.

أمّا المعطيات التي سأقدّمها إليكم سريعًا في هذا البحث فهي مستمدّة من أسلوبَيْن تقنيَّيْن: إنّ أوّل ما يلفت انتباهنا هو مشاركة هاتين الشريحتَيْن الفعّالة في الحياة العامّة، وكذلك أفعالهما في مواقف الحياة العاديّة وردّة فعلهما في الحالات الحرجة التي تمرّ بها البلاد؛ كما أنّها مستلّة أيضًا من تحليل أحاديث هاتين الشريحتين، بما في ذلك الخطاب الرسميّ الذي يلقيه زعماؤهما والخطاب الشعبيّ.

يرتكز هذا البحث، إلى حدّ كبير، على علم الاجتماع الشامل الخاصّ بماكس ويبر وألفرد شوتز، وكذلك، فقد استند تحليل المضمون إلى باحثَيْن آخرَيْن هما غابريال لو برا وتالكوت بارسونز. وفي ما يلي، سوف أعتمد، بوجهٍ خاصّ، على ما كتب بارسونز، مبيّنةً بالتالي موقع الشخص الذي يتحدّث إلى نفسه، ومجموعته المرجعيّة، وكذلك على الأشخاص الآخرين المنتمين إلى جماعات مرجعيّة أخرى، إلى الفرق المختلفة هذه، والمجتمع اللبنانيّ بوجهٍ عامّ. أمّا الهدف من هذه الدراسة فهو إبراز التصوّر الإدراكيّ عند الأفراد عبر تسليط الضوء على المجتمع بأسره. 

نصل إلى الذروة في هذه الدراسة عندما نشير إلى الصورة الذهنيّة الذاتيّة والغيريّة التي يتمّ نسجها بين الأفراد المنتمين إلى فريق مرجعيّ محدّد يترسّخ في المقام الأوّل في مرجعيّة إيديولوجيّة خارقة. فعندما يمثّل الله المصدر والهدف في الوقت نفسه لدى هاتين الطائفتين، يتضاعف انتماؤهما الطائفيّ/الدينيّ ويتكثّف معناهما، فتصبح الحالة مثقَلة بالمعنى. ولهذا السبب، فإنّ التعابير التي تصف الإدراك الذاتيّ الطائفيّ مهمّة جدًّا.

أمّا "الآخر"، في هذه الدراسة، فهو مختلف تمامًا عمّا نتوقّع. فالطائفة برمّتها تواجه "آخرَ" واحدًا أو عددًا منهم: أغرباء كانوا أم أعداء. فحتّى ولو كانوا ينتمون إلى الطائفة نفسها، ثمّة انقسامات لا محالة. وفي الواقع، قد يستخدم فريق من الشيعة تعبيرَ "الآخر" في ما يتعلّق بحزب الله أو أمل على سبيل المثال، كما أنّ ذلك قد يمثّل أيضًا السنّة عامّةً أو الحكومة اللبنانيّة التي يرأسها شخص من الطائفة السنّيّة الموالية للحريري. كذلك، قد يشير أيضًا إلى المسيحيّين الغربيّين، إذ يُفتَرَضُ أنّهم موالون لإسرائيل أو، بكلّ بساطة، المسيحيّين عامّةً، أو حتّى بعض الحركات المسيحيّة ذات ميل سياسيّ معيّن. هذا كلّه يعتمد على التصوّر الذاتيّ المحبوك لدى الشخص المتكلّم، وعلى صورة التزامه الشخصيّ الذي يخصّ، إلى حدّ كبير، تصوّر الآخر، أمختلفًا كان أم معارضًا.

كذلك، فنحن نحتفظ بالتصنيف نفسه للطائفتين إذ إنّ الانقسامات في قلب الطائفة المارونيّة تجعل "الآخر" شخصًا لا يتطابق مع "الآخر" المصنَّف لدى الثانية. كما أنّنا سوف نظهر المكوّنات المختلفة التي تركّب الـ "نحن" الطائفيّ هذا و"ذلك الآخر" أيضًا. في النهاية، سنصل إلى استنتاجَيْن اثنين: الأوّل يختصّ بالعلاقات القائمة بين الـ "نحن" والطائفة "الأخرى"، ولا سيّما بين الشيعة والموارنة؛ في حين أنّ الثاني يحدّد العلاقات القائمة بين الـ "نحن" الطائفيّ والمجتمع اللبنانيّ برمّته، بما فيه الدولة. 

سوف نكشف أيضًا عن بعض مميّزات الصورة الذهنيّة التي تتكوّن في قلب كلّ طائفة بحدّ ذاتها مقارنةً بالطوائف الباقية، قبل أن نعود إلى تبيان الأرقام التي تؤكّد الأفكار التي نطرحها.

 

صورة حزب الله القائمة على أساس طائفة الـ "نحن"

يؤلّف حزب الله، وهو جزء من المجتمع الشيعيّ اللبنانيّ، كيانًا منفصلاً بحدّ ذاته، فهو يُعتَبَر بمثابة حصنٍ منيع. ذلك أنّ أثر انتصاراته العسكريّة، وجدّيّة قراراته السياسيّة، وصورة الشهادة المقدّسة التي يتبنّاها، والروابط التي تصل قاعدته بقادته، عوامل تؤلّف مجتمِعةً مادّةً دسمة للأدب الشعبيّ والحكايات البطوليّة الرائعة. في الواقع، لقد أصبح حزب الله رمز المقاومة والشرف، وهو فخر الإسلام والعالم العربيّ الذي ترهبه دولة إسرائيل، ذلك العدوّ اللّدود الذي لم يُهزَم بعد حتّى الآن. ويمثّل شخص الأمين العامّ لحزب الله، السيّد حسن نصرالله، مجمل المشاعر التي يتحلّى بها الشيعة تجاه الحزب. كيف لا وهو أيقونة الحزب، ورمزه، وبطله؟ كيف لا وما من أحدٍ يتمتّع بحقّ التشكيك في كلمةٍ واحدة تخرج من فمه؟ فكلّ ما يتفوّه به مقدّس.

يدور كلام المتحدّثين على محاور عديدة، ولكنّني اخترت في هذا البحث اثنين فقط: الأوّل يتمحور على شخص حسن نصرالله في حين أنّ الثاني يثني على حركة المقاومة. 

شخص السيّد حسن نصرالله  

لا شكّ في أنّ السيّد حسن رجلٌ يثير الإعجاب على الرغم من صِغَر سنّه، فهو غامض بطبعه ورجوليّ. بتعبيرٍ آخر، إنّه قائد يتمتّع بكاريزما حقيقيّة تميّزه كلّ التمييز من غيره من القادة.[1] كذلك، فهو يخضع لضغوطاتٍ عديدة من الداخل اللبنانيّ ومن الخارج الذي يشمل مختلف الدول العربيّة والغربيّة. ولكنّه، مع ذلك، يحافظ على هدوء أعصابه ورباطة جأشه.[2]

 كلمتُهُ مقدّسة. الكلّ ينتظر ظهوره بفارغ الصبر. الكلّ يصدّق ما يقوله من دون تحليل ومن دون التشكيك فيه. "لقد قال"، عبارة من عبارات سمعناها غير مرّة، مثل: "لقد قال السيّد". فهو يحتفظ لشخصه بلقب "السيّد" بدون منازع. عنه نحن نتحدّث عندما نقول: السيّد! إنّه شخص يحفظ كلامه، ويدرك ما يقول. فهو إن وعدَ، وفى لا محالة.

 باختصار، يمكننا أن نؤكّد أنّ حسن نصرالله شخصيّة تمّ تقديسها. يكفي أن نسمع الناس وهم يقولون إنّه قد وصل إلى مستوى راقٍ جدًّا، وإنّه قريب جدًّا من الله، لدرجة أنّهم يعتبرونه نبيًّا.[3] هذا كلّه يعطي فكرةً بسيطة عن مدى أهمّيّة تواجده في قلب طائفته وفي إداراتها العليا. فهو يتصرّف على الدوام بتواضعٍ تامّ وبساطة ملحوظة وهو يخاطب المقاومين، أمام عدسات كاميرات الصحافة الدوليّة، إذ قال لهم: "أنا أقبّل أقدامكم، وأقدّس مقاومتكم، وأنحني أمام تضحياتكم!"[4]

صورة المقاومة

بهدف وصف المقاومة الإسلاميّة بوجهٍ دقيق، قمنا بالتمييز بين أربعة محاور هي التالية: المحور الأوّل يسرد صفات المقاومة كافّة، والثاني يضعها وجهًا لوجه مع إسرائيل، العدوّ الذي لا يُقهَر، في حين أنّ الثالث يصف المقاومين على أنّهم أشخاص يكرّسون حياتهم للصلاة والتضحية. أمّا الرابع والأخير فهو يعطي فكرة عن ردّة الفعل المرغوب فيها أمام تضحية كهذه.

في ما يتعلّق بصفات المقاومة، تأتي معظم تعليقاتنا بعد نشوب حرب تمّوز 2006، أي عندما كانوا فخورين جدًّا بقسمٍ صغير من الشبيبة الذين تمكّنوا من إيقاف الطغيان والاستبداد ومنح النصر للطائفة الشيعيّة اللبنانيّة، أفي لبنان أم في الدول العربيّة "الصادقة" كافّة.

وفي أثناء حرب تمّوز 2006، كان المقاتلون يصلّون ويخصلون على المساعدة من عائلة النبيّ، حتّى إنّ بعضهم يؤكّد أنّهم رأوا ملائكة تحارب إلى جانبهم.[5] لقد دفعوا دماءهم ثمن ذلك، وهو يضحّون بحباتهم من أجل المقاومة؛ [6] لقد تجرّد المقاتلون من كلّ ما في قلوبهم ما عدا من الإيمان.[7] باختصار، إنّهم أبطال... أبطالٌ يتمتّعون بموهبة خارقة بالإضافة إلى عقيدتهم.[8]

وبالتالي، فإنّ ردّة الفعل الطبيعيّة تجاه الصفات الحسنة والتضحيات هذه تكمن في حماية المقاومة[9]، وحصول هؤلاء المقاومين على الاحترام الفائق[10]، وأخيرًا، بقائهم على استعدادٍ تامّ للقيام بما يلزم وتقديم ما هو ضروريّ للمقاومة.[11] وفي المقابل، فإنّ من يضرّ المقاومة ويؤذيها هو خائن[12]!

 

صورة حزب الله القائمة على أساس فريق الـ "هُم" (الآخر)

في تصوّر الطائفة الشيعيّة الذهنيّ، يمثّل الآخر ثلاث مجموعات: إثنتان منها مشتركة بين الشيعة بالإجمال، أي بصريح العبارة، القوّات اللبنانيّة من جهة، والسنّة، ولا سيّما أنصار الحريري، من جهة أخرى. أمّا مَن يعتبرون أنفسهم من الشيعة المتحرّرين أو غير الملتزمين إلى أقصى الحدود، فهم يقيّمون حزب الله على أنّه فريق آخر قائم في قلب الطائفة، بتعبير آخر، فريق مغلق.

ولكن، على الرغم من تصنيف المجموعات هذا، فقد وُصِفَ حزب الله بصورٍ يغلب عليها التمجيد، حتّى ولو كان موسومًا بصورة دينيّة ثابتة. 

كذلك، فإنّ أوّل ما ترفضه النساء الشيعيّات المعتدلات لدى أتباع حزب الله ومناصريه، هو التضحية بأطفالهنّ من أجل المقاومة وحياة حسن نصرالله. كيف لا وهو يُنتَقَد بشدّة لأنّه ينسب الشهداء إليه ويعتبرهم أولاده، مهمّشًا أهلهم لا سيّما عندما يقول إنّ الحزب يدعو أهالي الشهداء إلى الدفن وكأنّ أولادهم الشهداء غرباء عنهم.

وبالإضافة إلى الصورة الملائكيّة التي يرسمها الناس عن حزب الله، ثمّة تعليقات تنتقد طريقة تعليمهم الدين وتعتبر أنّهم يحوّلون الناس عن إيمانهم التقليديّ ويدرّبونهم بالحريّ على المزيد من الأصوليّة في ما يتعلّق بتطبيق الشريعة.[13] ومن هذه الأمور نذكر ما يلي: فرض ارتداء الحجاب[14]، والتطرّف[15] حتّى؛ وتكريس الوقت شبه الكامل للصلاة الجماعيّة، ومجالس العزاء، ودوائر الدراسات الإسلاميّة[16]. في الواقع، يروّج حزب الله لنفسه وكأنّه الضمانة للحفاظ على الإسلام الحقيقيّ والشيعة بوجهٍ خاصّ. في النهاية، إنّه فريق محصور في مجتمعٍ منفصل قائم بحدّ ذاته، حيث يعيش مناصروه مغلقين على أنفسهم، حتّى ولو كانوا يسعون أحيانًا إلى القيام بخطوات معيّنة تجاه المجموعات الأخرى.

صورة الموارنة الذهنيّة القائمة على أساس الـ "نحن"

 من بين 216 تعليقًا تشير إلى تصوّر ذاتيّ وأخرويّ، ثمّة 100 تؤكّد صورة "نحن الموارنة"، و85 تشير إلى الآخر الشيعيّ، في حين أنّ 25 صورة تتحدّث عن العلاقات المحتمَلة بين الطائفتين، و6 تعليقات فقط تبيّن نوعيّة العلاقات بين الطائفة والدولة اللبنانيّة.   

 

"نحن" القوّات اللبنانيّة

ستكون مراجعنا التي تحوي مختلف الصور ذات الصلة بصورة "نحن الموارنة" غير مكتملة إذا أبينا أن نميّز ما بين فئتين من الـ "نحن" في قلب الطائفة الواحدة.  وبالتالي، فلا غنى عن نقل الصور التي يرسمها لنفسه كلّ من الحزبين السياسيَّيْن المتقابلَيْن، وكذلك تلك التي يتصوّرها كلّ منهما عن الآخر المارونيّ والآخرين غير المسيحيّين.

المقاومة اللبنانيّة الحقيقيّة

لقد أعلن عشرات المحاوَرين في الشيّاح أنّهم من مناصري القوّات اللبنانيّة وقدّموا إلينا أفكارًا تجسّد تصوّراتهم التي يحيكونها عن المجموعة التي ينتمون إليها ويدينون لها بالولاء التامّ.

في التعليقات الصادرة عن مناصري القوّات اللبنانيّة، لاحظنا أنّ تصوّرهم للـ "نحن" هو ما يلي: نحن قمنا ببناء لبنان، وبحماية المسيحيّين، وصون دماء الشهداء. كما أنّهم يجلّون أنفسهم لأنّهم قد قاتلوا في سبيل الحفاظ على الهويّة اللبنانيّة.

وهكذا، فإنّ أولويّات القوّات اللبنانيّة تتوزّع على المحاور التالية: الحفاظ على هويّة لبنان (بلد حرّ، ديموقراطيّ، ومسيحيّ على الأرجح)، وبناء دولة سياديّة، وتعزيز الجيش اللبنانيّ ونزع سلاح حزب الله، وصون القوّات اللبنانيّة، وحماية القائد (سمير جعجع)، وأخيرًا، الدفاع عن العائلة.[17]

 بدلاً من الله في المطلق، لدينا هنا الديانة المسيحيّة بوجهٍ عامّ والطائفة المارونيّة بوجهٍ خاصّ؛ وبدلاً من الوطن بكلّ مكوّناته الطائفيّة والسياسيّة، لدينا هنا اليمين المسيحيّ الممثَّل بالقوّات اللبنانيّة، وأخيرًا، تحافظ العائلة على المنصب الأخير في القائمة من دون أيّ تعديل.

في النهاية، يُعتبر سمير جعجع، قائد القوّات اللبنانيّة الأعلى، شخصًا يحمل راية الحرّيّة والدفاع عن المسيحيّين في لبنان.[18] إنّه مَن يمثّل قناعات مناصريه.[19] في الواقع، فقد مُسِحَ تاريخه السلبيّ كلّه مع دخوله السجن مدّة أحد عشر عامًا، وكذلك، فإنّ جرائم القتل كلّها التي سمح بحصولها باتت اليوم أمرًا طبيعيًّا في ظلّ حربٍ كان كلّ شيء فيها مُباحًا من أجل الدفاع عن النفس.

 

"نحن" العونيّين

إنّ الصورة التي يرسمها العونيّون لأنفسهم هي نقيض تلك التي تتفرّد بها القوّات اللبنانيّة تمامًا. فهم يؤكّدون أنّهم لم يذهبوا إلى الحرب بما أنّ التيّار، بحدّ ذاته، لم يكن قائمًا في زمن الحرب الأهليّة. وهم يعتبرون أنفسهم مثقّفين أكثر من غيرهم ولا علاقة لهم بالبلطجيّة بأيّ وجهٍ من الوجوه. في حين أنّ مناصري القوّات اللبنانيّة يعتبرون أنّهم منقذو المسيحيّة، يعتقد العونيّون أنّهم النخبة في قلب الطائفة.

المواطنون الحقيقيّون

كما سبق أن ذكرنا، لا يتباهى العونيّون بذهابهم إلى الحرب، بل يركّزون بوجهٍ خاصّ على المستقبل الذي يحلمون ببنائه بحسب نموذج التعايش والتعاون ما بين مختلف الأحزاب السياسيّة والطوائف كافّة. وهكذا، تبقى القوّات اللبنانيّة عدوّهم الأوّل. إذ كان التعاون مع حزب الله أسهل في نظرهم من التعاون مع القوّات اللبنانيّة. أمّا الخطاب العونيّ فهو يسلّط الضوء بالحريّ على شخص الجنرال ميشال عون وعلى الاختلاف القائم، بنظرهم، بينهم وبين مناصري القوّات اللبنانيّة.

وبالتالي، يتمّ وصف الجنرال عون كما يلي: إنّه الرجل الوحيد الصادق بين السياسيّين والمارونيّ الوحيد الذي يستطيع أن يملأ الفراغ الرئاسيّ.[20] إنّه السياسيّ المسيحيّ الوحيد الذي يطالب بحقوق طائفته بوجهٍ خاصّ والمسيحيّين بوجهٍ عامّ؛ فالآخرون يتظاهرون بذلك، ولكنّهم لا يحرّكون ساكنًا على أرض الواقع. وعلى الرغم من أنّه مقتنع بضرورة قيام دولة علمانيّة، إلاّ أنّه لا يتوانى عن ملاحقة حقوق طائفته.

يعتقد العونيّون أنّ التفاهم الذي تمّ سابقًا (ورقة التفاهم بينهم وبين حزب الله) يحمي البلاد ويصونها من حرب طائفيّة جديدة.[21] وهكذا، فإنّ نموذج التعايش الذي يقترحونه هو نموذج يجب أن تحتذي به الأطراف كافّة في البلاد، لأنّه يمثّل أقصى حدود التعايش المشترك.

صورة فريق الـ "هُم" (الفريق الآخر)

القوّات اللبنانيّة على أساس فريق الـ "هُم" (الآخر)

لا تختلف الفكرة الثابتة التي يكوّنها العونيّون عن مناصري القوّات اللبنانيّة كثيرًا عن تلك التي يرسمونها عن الشيعة. يكفي أن نصنّف هؤلاء الأشخاص في خانة "البلطجيّين"! لهذه التسمية ثلاثة أسباب هي التالية: أوّلاً، إنّهم أشخاص يمضون وقتهم في الشوارع، ولا سيّما في الليل؛ ثانيًا، هم يتقاتلون مع شيعة أمل والعونيّين؛ وأخيرًا، هم يفضّلون لو يعود زمن الحرب أدراجه لكي ينهبوا مجدّدًا ويفرضوا سلطتهم.

العونيّون على أساس فريق الـ "هُم" (الآخر)

ليست الصورة التي يرسمها مناصرو القوّات اللبنانيّة عن العونيّين أوضح بكثير، فالمشهد مظلم من الجانبَيْن. شعوران يسيطران على طريقة التحدّث عن الآخر: الاحتقار والاستهانة. فكلّ فريق يعتبر نفسه وصيًّا على الحقيقة.

في هذا السياق، يشتدّ الهجوم على شخص الجنرال عون الذي غيّر سياسته خصوصًا بعد أن غلب طابع المودّة على علاقته بالسوريّين وحزب الله، محقّقًا بالتالي حلم الشيعة الأقصى: التدخّل في المجتمع المسيحيّ. الهجوم يصبّ كذلك على العونيّين بحدّ ذاتهم إذ إنّهم قد ابتعدوا عن المعارضة لكي يتحالفوا مع العدوّ الأسبق. لقد وُصِمَ المناصرون والقائد بالخيانة؛ خطيئتهم الكبرى أنّهم يدعون إلى الانفتاح على الشيعة ونسيان الحرب الأهليّة.

وفي هذا السياق، نلاحظ أنّ الهجوم الذي يتحلّى بطابع دينيّ يميّز الطرفين. فإذا كان العونيّون ينتقدون النزعة الطائفيّة لدى القوّات اللبنانيّة وانغلاقهم على أنفسهم في قلب مجتمع مسيحيّ محض، لا تفوّت القوّات اللبنانيّة فرصة انتقاد العونيّين لانفتاحهم المبالَغ فيه على الشيعة والذي سينتج منه لاحقًا خسارة فادحة للمسيحيّين ككلّ، لأنّ الشيعة، ما إن يبدأون بالتدخّل في المجتمع المسيحيّ، حتّى يضعون أيديهم على الأرض والسلطة المسيحيّة، ولن يتمكّن أحد من ردعهم، ولا حتّى الجنرال عون نفسه. وهكذا، فإنّ العونيّين يُعتَبَرون مسيحيّين مزيّفين. 

الشيعة على أساس فريق الـ "هُم" (الآخر) 

تُسلّط التعليقات التي تذكر الشيعة الضوء على الصورة الأساسيّة التي يتّخذها الموارنة عن الشيعة، بغضّ النظر عن رأيهم بحزب الله أو بسياسته. إنّها صورة تبرز حاجة هذه الطائفة إلى التعبير عن نفسها في مجتمعٍ لم يعترف بهم بقدر ما كانوا يريدون، قبل وصول الإمام موسى الصدر. إنّها أيضًا صورة لرفض تعدّد الزوجات، والطريقة التي يتعامل بها الرجال مع المرأة والأولاد. إنّها انتقاد للتربية المغلقة على ذاتها والتي تتلقّاها الأجيال الصاعدة، ولا سيّما على المستوى الدينيّ. باختصار، يعتبر الموارنة أنّهم أقلّ شأنًا منهم في كلّ ما يفعلون وفي ما هم عليه!

كذلك، لاحظنا أنّ هنالك شعورًا قويًّا ليس سوى القلق الشديد من هذه الطائفة التي تتضاعف أعداد معتنقيها يومًا بعد يوم وتنتشر في كلّ مكان. ويُعتبر هذا الانتشار سياسة تهدف إلى الأخذ بزمام السلطة في البلاد عبر مبدأ الأغلبيّة. وبطريقة ذكيّة، يشترون الأراضي والبيوت في المناطق المختلفة؛ إنّها طريقة قد تبدو للوهلة الأولى وكأنّها مسيرة اندماج، وهي في الواقع ليست سوى غزو مبطّن. وهكذا، سيتمكّنون يومًا ما من وضع اليد على السلطة أبقوّة السلاح  أم بقوّة العدد.

نظنّ أنّ القلق هذا يعود إلى أسباب عديدة، هي: ذاكرة الحرب والمواجهات الدائمة، والشائعات التي لا تفلح سوى بتضخيم مشاعر الخوف، وفي النهاية، الشعور بالخسارة الذي يسيطر على الطائفة المارونيّة بعد أن تمّ وقف إطلاق النار العام 1990، والذي تفاقم مع واقع قيام دولة هشّة وضعيفة عاجزة أمام ازدهار حزب الله على المستويات كافّة، على صعيد قوّته السياسيّة، أو قدرته الشرائيّة بفضل تدفّق الأموال من إيران، أو صورته المقدّسة في نظر قاعدته الشعبيّة، أو قوّته العسكريّة.

وقبل أن ننهي الدراسة هذه، لا بدّ من أن نشير إلى تصوّر ذلك الشيعيّ الآخر، نعني بذلك مناصري أمل. على هذا المستوى، ما من فروقات في التعبير، فالكلّ موافق على أنّهم "بلطجيّون". حتّى إنّنا قد لاحظنا أنّ مناصري حزب الله يحتفظون بصورة مناصري أمل نفسها.

العلاقات بين "نحن الموارنة" / و"هُم الشيعة"

تحدّث الموارنة الذين أشاروا إلى العلاقات بين الطائفتين بوجهٍ خاصّ عن التفاهم السياسيّ الذي حصل بين حزب الله والتيّار الوطنيّ الحرّ: ثمّ تكلّموا على الزواج المختلط، وأخيرًا على التعايش المشترَك. ثمّة موضوعات أخرى أيضًا مرّت مرور الكرام من دون أن يتمّ تكرارها.

وفي هذا الصدد، فإنّ التعليقات على الزواج المختلط تأتي في الصفّ الثاني. ذلك أنّ المحاوَرين جميعهم يحجمون عن هذا النوع من الزواجات. فكرتان تترجمان النتيجة هذه: الأولى هي الخوف من عدم التعايش مع العادات المتبادَلة والتأقلم معها[22]، والثانية في مسألة الحرّيّة الدينيّة.

أمّا فكرة التعايش فلقد تمّ ذكرها مرّات عديدة وعلى مستويات مختلفة. فالعلاقة بين أعضاء الطائفتين قد تكون علاقات صداقة[23]، أو علاقات قائمة بين زملاء في العمل[24]، أو تعاون مشترك بين المواطنين أو الجيران[25]

كما ذكر أعضاء الطائفتين بمجملهم بعض أوجه التعايش، من دون أن يتطرّقوا إلى المشكلات ذات الطابع العلائقيّ. لم يتعمّق أحد في الموضوع، ولم يجرؤ أحد على التحدّث عن الواقع الذي نعيشه في حياتنا اليوميّة. كلّ شيء دخل في خانة المجاملة. فالمعرفة المتبادلة اختفت ملامحها كلّيًّا من الأحاديث. في المقابل، ما ورد في أحاديثهم كان ينبع من الأحكام المسبقة ذات الطابع الدينيّ من ناحية الشيعة، وذات الطابع الأخلاقيّ من ناحية الموارنة.

أمّا التعليقات التي تذكر العلاقات بين أعضاء الطائفة المارونيّة والمجتمع اللبنانيّ ككلّ فعددها ستّة، ويقابلها أربعة من الجانب الشيعيّ. ما من فرق على هذا المستوى. وما من وجود فعليّ لأيّ تصوّر لمجتمع مشترَك هو بتعبيرٍ آخر الدولة. ذلك أنّهم تكلّموا على الموضوع سريعًا جدًّا، ولكنّ الإشارات الحقيقيّة لا تمتّ بصلة إلى القوانين الدستوريّة المشترَكة، لأنّ الشيعة لا يعودون سوى "إلى الشريعة"، في حين يعود الموارنة إلى قادتهم السياسيّين!

الخاتمة 

من خلال تحليل الأحاديث، نستطيع أن نفهم الخبرة المعرفيّة التي يتمتّع بها أعضاء الطائفتين تحت الدراسة. نلاحظ إذًا أنّ الانقسام الذي ولّدته الحرب ليس مجرّد انقسام جغرافيّ، بل يتخطّى المكان ليصل إلى مستوى العلاقات والتصوّرات، حتّى في قلب الطائفة نفسها أي بين حزبين سياسيَّيْن، إذ نجد أنّ الانقسام مدوٍّ، شأنه شأن الأحكام المسبقة. على المستوى الدينيّ، يلقي الناس الاتّهامات بعضهم على بعض يمينًا ويسارًا، ففي بعض الأحيان نكون في غاية الانفتاح، وفي أوقات أخرى، نلفي أنفسنا صارمين جدًّا. على المستويين السياسيّ والوطنيّ، الكلّ يعتقد أنّه المنقذ الوحيد والحلّ الأوحد للحقيقة، تلك الحقيقة التي تتغيّر مَعالمها لتصبح مطلقة في كلّ فريق.

أمّا الآخر، ذلك المختلف، فهو الطائفة الدينيّة التي تسعى إلى وضع يدها على البلاد، ولكنّه كذلك الحزب السياسيّ الآخر المتحالف مع آخر لا يشبه غيره.

في بعض الأوقات، يسود الخوف، وأحيانًا، يسيطر الاحتقار، وفي كلّ الأزمان، تهيمن الثقة المنعدمة!

ومن المنظار هذا، تبدو الصورة قاتمة، فالطائفة الأوسع الممثَّلة بالدولة غير متواجدة أصلاً في تصوّرات الطرفَيْن. كلّ طائفة تكتفي بنفسها وبما تمثّل، إذ إنّها أصبحت فوق المستوى الوظيفيّ، بمعنى أنّها أصبحت تمثّل الدولة بأفرادها.

وهكذا، بحسب ما قيل، فإنّ أعضاء الطوائف جميعها، من أجل البقاء، ليست بحاجة، في الواقع، سوى إلى طائفتها الدينيّة لكي تلبّي حاجاتها، مهما كانت طبيعتها.   

 

 

*   أستاذة الأنتروبولوجيا الدينيّة واللاهوت العمليّ في كليّة العلوم الدينيّة، جامعة القدّيس يوسف - بيروت، ومنسّقة برنامج الماستر في هذه الكليّة. 

*   تعريب كلير بوناصيف.

[1]   البيان رقم: [10] راجع. 14،loc.[1] . إنّ البيانات التي نستشهد بها هنا مستلّة جميعها من "النصّ الأصليّ": مجموعة المقابلات. أمّا الرقم المتواجد ما بين القوسين فهو رقم البيان، كما أنّ المرجع يتعلّق بالنصّ العربيّ التابع لأرقام المقابلات، وبالمحاورين، والمجهولين منهم.

2     البيان رقم [249] راجع 319،loc.[46] .

[3]  البيان رقم: [56] المرجع. 78، loc.[10].

[4]   خطاب السيّد في حرب تمّوز 2006.

[5]  البيان رقم: [623] راجع. 846، loc.[82].

[6]  البيان رقم: [669] راجع. 900-902، loc.[89, 90].

[7]   البيان رقم: [989] راجع. 1331، loc.[122].

[8]   البيان رقم: [701] راجع. 936، loc.[89].

[9]   البيان رقم: [700] راجع. 935، loc.[89].

[10] البيان رقم: [995] راجع. 1337، loc.[122].

[11] البيان رقم: [624] راجع. 847، loc.[81].

[12] البيان رقم: [994] راجع. 1336، loc.[122].

[13] البيان رقم: [816] راجع. 1073، 1074، loc.[107].

[14] البيان رقم: [670] راجع. 901، loc.[90].

[15] البيان رقم: [671] راجع. 903، loc.[90].

[16] البيان رقم: [703] راجع. 938، loc.[90].

[17] البيانات رقم: [953] راجع. 1282 و1284 و[961] راجع. 1295، loc.[121] و[1058] راجع. 1411، loc.[125].

[18] البيان رقم: [490] راجع. 669، 670، loc.[61].

[19] البيان رقم: [1058] راجع. 1410، loc.[125].

[20] البيان رقم: [80] راجع. 110، loc.[17].

[21] البيانات رقم: [548، 549] راجع. 744، 745، loc.[70, 73].

[22] البيان رقم: [641] راجع. 870، loc.[88].

[23] البيان رقم: [542] راجع. 714، loc.[70].

[24] البيان رقم: [583] راجع. 793، loc.[77] et [900] و1181 loc.[111].

[25] البيان رقم: [641] راجع. 870، loc.[88].

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق

الأكثر قراءة

الذات والعهد ولبنان

دولة لبنان الكبير 1920 – 2021

الوجه المفقود للمسيحيّين في سورية

الأطفال وصعوبات التعلُّم.

شفاء القلب.

الطاقة الخلّاقة للمعاناة

إختر الحياة

لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟

من الصدق إلى الحقيقة

حبّ مُتفانٍ لأرض مُهملة

فنُّ العيش بتناغم

لماذا أخشى أن أحبّ؟

سائحة

ثق فتتجدّد

السعادة تنبع من الداخل

رحلة في فصول الحياة

القرار - إتّباع المسيح في حياتنا اليوميّة

أسرار الناصِرة

العائلة بين الأصالة والحرّيّة

نحو حياة أفضل (5)

الأيادي الضارعة

موعد مع يسوع المسيح

شبيبة متمرّدة

من يهديني؟

لا أؤمن بهذا الإله

اليقظة

حبّ بلا شروط

في بداية الحياة فرح ورجاء

الشعور بالرضا

في سبيل لاهوت مسيحيّ للأديان

دليلُكَ لفهم الأيقونات.

على درب الجلجلة

المنجد

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

الكتاب المقدس - ترجمة جديدة (حجم وسط)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)