انقلب أدب كيبيك فابتعد عن أدب الأرض والانتماء، فيما استمرّ الأدب اللّبنانيّ بالفرنسيّة متمسّكًا بالوطن الأم

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

البروفسور جورج لبكي

أدب الأرض والانتماء فـي القصّة: دراسة مقارنة بين الأدب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة وأدب الأرض والانتماء فـي مقاطعة كيبيك Le terroir dans la littérature libanaise d’expression française et la littérature du Québec: étude comparée

 شكلّت اللّغة الفرنسيّة إحدى وسائل التّعبير المهمّة في أدب الأرض والانتماء فـي كلّ من لبنان ومقاطعة كيبيك حيث ترتبط اللّغة الفرنسيّة ارتباطًا وثيقًا بالهويّة الخاصّة بالمقاطعة لأنّها تعتبر إحدى أبرز علامات التّمايز عن المقاطعات الكنديّة الأخرى. فاللّغة الفرنسيّة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالصّراع بشأن الحفاظ على استقلال مقاطعة كبييك على مرّ العقود والأجيال. ظهر نتيجة لذلك تيّار فكريّ عُرف باسم قصص الأرض Le roman du terroir وازدهر بين نهاية القرن الثّاني عشر ونهاية الحرب العالميّة الثّانية حيث انحسر هذا التيّار، وتغيّرت مشارب الفكر والأدب بفعل التّحولات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّيموغرافيّة التي حدثت فـي مقاطعة كيبيك.

أمّا فـي لبنان فقد ازدهر أدب الأرض والانتماء مع كتّاب مجموعة المجلّة الفينيقيّة التي ضمّت شارل القرم وإيلي تيان وميشال شيحا وهكتور خلاط.… وقد تجلّى أدب الأرض والانتماء بشكل خاصّ مع الكاتب اللّبنانيّ فرج لله الحايك الذي تناول فـي قصصه الحياة فـي الأرياف والقرى الرّابضة على أكتاف الجبال، معلّقةً بين الأرض والسّماء، بمشهدية طبيعيّة خلّابة بحيث إنّها تكاد تكون قطعة سماء على الأرض. سنتناول فـي دراستنا بشكلّ خاصّ أوّل كاتب فـي فنّ القصّة فـي كيبيك باتريس لاكومب، وفرج الله الحايك وبعض الكتّاب بالفرنسيّة فـي كيبيك كوجدي معوّض وفريدا عنبر وعبلى فرهود.

أدب الأرض والانتماء

اِزدهر أدب الأرض والانتماء فـي مقاطعة كيبيك بين عامَي ١٨٤٦ و١٩٤٥ ويدور حول التّعلّق بالحياة فـي الرّيف والحدّ من الهجرة إلى المدينة التي كانت تعتبر مهلكًا للنّفس وتنكّرًا لروح الانتماء، وخروجًا عن التّقاليد المتوارثة من جيلٍ إلى جيل. ويُعتبر كتاب باتريس لاكومب Patrice Lacombe صاحب أوّل قصّة تحمل عنوان الأرض الأم[1] La terre Paternelle وقد صدر فـي عام ١٨٤٦. تتناول القصّة عائلةً توارثت الأرض من جيل إلى جيل، وكانت تعيش باكتفاء ذاتيّ ورخاء واضح من خيرات الأرض. حدثت النّكسة الأولى للعائلة عندما هاجر أحد الأولاد إلى المدينة، ممّا أحزن والده لأنّه تخلّى عن أرض الأجداد. أمّا الكارثة الأخرى فتمثّلت بقرار ربّ العائلة ترك أرضه والعمل فـي التّجارة، ما أدّى إلى خسارة أرضه واضطراره  إلى العيش بفقرٍ مدقع.

الأرض

يرتبط مصير الإنسان بالأرض. يتجلّى هذا القول بوضوح فـي كلّ من مقاطعة كيبيك وفـي لبنان حيث ترتقي العلاقة بالأرض إلى أعلى درجات الاتّحاد والتّفاعل الجسديّ والرّوحيّ. والواقع، أنّ مصير المهاجرين الفرنسيّين الأوائل إلى شمال القارّة الأميركيّة ارتبط بالتّشبث والتّمسك بالأرض كوسيلة ناجعة لمقاومة الزّحف الأنكلوسكونيّ الجارف الذي قضى بشكل شبه نهائيّ على الوجود الفرنسيّ فـي الولايات المتحدة الأميركيّة وفـي معظم أرجاء كندا. أمّا فـي لبنان فشكلّ الجبل قلعة شامخة تحصّن فـي كنفها أهل الجبل ومَن لجأ إليهم للحفاظ على حريّتهم الغالية والتي لم يقبلوا يومًا بالتّخلّي عنها، بالرّغم من كلّ المغريات الماديّة وسهولة العيش فـي المدن بعكس صعوبة الحياة فـي الجبال الجرداء التي فتّتوا حجارتها وحوّلوها إلى جنائن خضراء معلّقة. فـي هذا الإطار، يعتبر باتريس لاكومب "أنّ الأرض تعطي أضعاف مقابل ما تتلقّاه من سكّانها الذي ينعمون بالسّعادة فـي أرجائها. سعداء جدًا أهالي الأرياف لو عرفوا فعلًا هذه السّعادة" [2]

ويضيف لاكومب: "لنترك البلدان القديمة، التي أصابها فساد الحضارة وقصصهم الدّمويّة ولنصف ابن الأرض كما هو متديّن، صادق، حسن الأخلاق والسّلوك، ولنتمتّع باليسر والثّروة من دون تكبّر وبذخ"[3]

بالمقابل، إنّ الابتعاد عن الأرض هو مصدر ألم وفقر وعوز وضياع، فالأرض هي الملجأ الأمين ضدّ إغراءات الحياة فـي المدينة.

هذا الشّعور بالانتماء إلى الأرض نجده عند الكاتب فرج الله حايك الذي يتحدّث فـي قصصه عن روحانيّة الأرض La mystique de la terre حيث ينعم القرويّ بحياة كريمة وهادئة قبل أن يخرج منها إلى المدينة، فيضحي كمن يخرج من الفردوس ليجد نفسه فـي مواجهة مع المجتمع الفاسد.

يلعب المال دورًا كبيرًا فـي المجتمع الحضريّ بحيث إنّه أصبح الهمّ الرئيسيّ للإنسان. وقد أبعده ذلك عن أخيه الإنسان وعن الإيمان والقيم. ويضيف فرج الله الحايك أنّ الأرض هي الشّخص الأساسيّ في قصصه، والويل لمن يخونها.

ويضيف قائلًا: "منذ البداية، وضعت برنامجي ألا وهو متابعة تطوّر الإنسان في بلدي، وأنّ الإنسان مرتبط روحانيًّا بالأرض. ومن ثمّ يضيع الإنسان على مفترق الحضارة حيث يتخبّط في مصاعب عديدة… وعندما يفقد صلته بالأرض، يفقد قوّته".[4]

وهذا ما حدث بالفعل لحبيب أحد أبطال قصّة "بنت الله" La Fille d’Allah وهي قصّة من ثلاثيّة تحمل عنوان أبناء الأرض. والملاحظ أنّ فرج الله حايك اعتبر أنّه بعد خروج الإنسان من القرية دخل في عالم جهنميّ، وأصبح سيئًّا ومفطورًا على الشّرّ من دون أية إمكانيّة عودة إلى الوراء.

ويضيف الحايك أنّ اللّبنانيّ مزارع بالفطرة اتّخذ الأرض رفيقة له، تقوم بإطعامه وهو يطعنها من دون رحمة، ولكنّها تبقى وفيّة له. وقد ولدت محبته لها بسبب هذا الخضوع الذي هو عربون وفاء.

ولكن هل يشكّل هذا التّعلّق بالأرض جسديًّا وفكريًّا وروحيًّا، والالتصاق بها من المهد إلى اللّحد، والاعتقاد أّن حدود القرية هي حدود الكون، رفضًا للآخر Exclusion وتجريحًا به وتكفيره وعدم الوثوق به أو التّعامل معه؟

من جهة أولى، يشير السّياق العامّ القصصيّ في الأدبين اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة وأدب مقاطعة كيبيك إلى ذلك المنحى. نجد الشّعور نفسه برفض الآخر في قصّة الغريبة لفرج الله الحايك ذات العنوان المعبّر التي تسرد قصّة زواج أحد شبّان القرية من فتاة من خارجها، ومعاناتها مع عائلة زوجها ومع المجتمع القرويّ بشكلّ عامّ.

لاقى ظهور الغريبة رفضًا من أهل قريةِ زوجها لأسباب تتعلّق بالهويّة والمعايير القيميّة التي اعتمدها هؤلاء: فكان مثلًا المظهر الخارجيّ للغريبة نقطة البداية لرفضها.

وهذه المرأة الغريبة التي لها شكلّ لعبة الأطفال، النّحيفة والضّعيفة التي كانت تنظر إلى أهل القرية نظرة تكبّر. تعكّرت حياة القرية بسببها، فتركت بصمتها على كلّ شيء... حتّى على الآليات الزّراعيّة.

"الآليّة! وهذا الصّوت الجهنّمي ورائحة النّفط هذه. فالغريبة، الغائبة الحاضرة هي كالحظّ السّيّئ. إنّها جنيّة خطيرة تنفخ على القرية نَفَسها، كامرأة ملعونة".[5]

نجد رفض المرأة الغريبة نفسه في أدب كيبيك، حيث يحلم بطل قصّة «الأرض الأم» بتزويج ابنته لأحد أبناء الرّيف الذين يملكون ثروات عقاريّة مثله، ويمتلكون المستوى الاجتماعيّ ذاته. فخوف الأب يصل إلى حدّ التّطيّر والقلق من أن يقترن ابنه بإحدى بنات المدينة اللّواتي لا همّ لهنّ، برأيه، سوى التّمتّع بالحياة واللّهو والطّيش. ولكنّ هل يشكلّ  رفض أهل الرّيف للآخر قاعدة عامّة أم استثناء؟

في الواقع إنّ رفض الغريبة من قِبل أهل القرية في قصّة فرج الله حايك هو استثنائيّ، فأبطال قصص حايك لا يشكّلون نموذجًا لأهل القرى في لبنان. فالملاحظ أنّ إيمان حايك بأنّ الإنسان سيّئ بطبعه يدفعه إلى إضفاء روح من الشّرّ والحقد والكراهية على أبطال قصصه خاصّة المرأة التي صوّرها بمظهر الإنسان الذي لا يجلب سوى المشاكلّ والمآسي للآخرين من خلال ايقاعهم بشباكها.

وفي الحقيقة فإنّ لبنان بجباله وقراه، وما زال على مرّ التّاريخ، ملجأً لكلّ المضطهدين والغرباء الذين احتضنهم، وقد دفع أثمانًا باهظة لهذا الشّعور الإنسانيّ الرّاقي والمميّز.

أجمع كُتّاب قصص الأرض والانتماء فـي كيبيك ولبنان على أنّ كلّ من يبتعد عن الأرض يُصاب بلعنة قاتلة لا شفاء منها سوى بالعودة إلى أحضان القرية. دفع هذا الاعتقاد، الكاتبَ القصصيّ فرج الله الحايك إلى الزّعم بأنّ الأنسان، كلّ إنسان، ملاحق باللّعنة La fatalité ولا شفاء منها، لأنّ الإنسان انسلخ عن الأرض، واندمج فـي المجتمع حيث يسود الفساد الأخلاقيّ، واستغلال المرأة والجشع والصّراع بين أفراد العائلة الواحدة والزّنى والقتل واستغلال الآخرين طمعًا بالسّلطة. فأبو نصيف مثلًا بطل القصّة التي تحمل اسمه يضطرّ إلى بيع أغلى ما عنده، أي الأرض التي توارثها عن أجداده، كي يشتري شرف وكرامة ابنته. ولكنّ هذه التّضحية الكبيرة برمزيّتها وقيمتها الماديّة المرتفعة لا تفي بالمطلوب ولا تحقّق أهداف أبو ناصيف لأنّ مَن غرّر بابنته شخص سيّئ لا تنفع معه أية وسيلة.

نجد التّشاؤم نفسه واللّعنة فـي قصّة لاكومب الذي توفّى أحد أبنائه، وهاجر الآخر تاركًا عائلته من دون رحمة. وعندما قرّر الوالد نقل ملكيّة أرضه إلى أحد أبنائه سقط سريعًا فـي الفقر المدقع. حاول الأب أن يترك الأرض ويعمل فـي التّجارة. عندها كان السّقوط نهائيًّا، فاضطرّ إلى ترك الرّيف والتّوجه إلى ضواحي المدن الفقيرة، حيث عانى الأمرّين من الجوع والمرض والفقر.

أمّا فيما يتعلّق بالكتّاب اللّبنانيّين باللّغة الفرنسيّة والذين استقرّوا فـي مقاطعة كيبيك فقد حملوا معهم حبّهم لبلاد الأرز والياسمين وترابها، وهذا ما يستشفّ بسهولة من خلال نتاجهم الفكريّ، إمّا صراحة، أو بطريقة رمزيّة لا تسمّي الوطن الأم بالاسم، أو حتّى بطريقة غير مباشرة. وهذا الأسلوب يظهر جليًّا فـي مسرحيّات وجدي معوّض الذي تبوّأ الصّدارة فـي العالم الفرنكوفونيّ، وبشكلّ خاصّ فـي مقاطعة كيبيك وفرنسا، فمشكلة الانتماء والهويّة والعلاقة بتراب الوطن الأم تظهر فـي حنايا مسرحيّاته، وتطفو مشاعره المضطربة والمتعدّدة على السّطح بعبارات وصور وتنهّدات ومقارنات، تُظهر بوضوح أنّ للكاتب هويّات متعدّدة.

صحيح أنّه نشأ وترعرع فـي طفولته فـي بلدته دير القمر. وحين اندلعت الحرب اللّبنانيّة لجأ مع عائلته للعيش فـي بلدة بعبدات الواقعة فـي قلب الجبل اللّبنانيّ والتي تأثّر بجمال طبيعتها ومستواها الثّقافيّ الرّاقي. اضطرّت عائلة وجدي معوّض إلى الرّحيل إلى باريس حيث تابع دراسته، وبالرّغم من حبّه للثّقافة الفرنسيّة وتملّكه لغة موليير رُفض طلب حصوله على الإقامة فـي فرنسا. شاء عندها القدر، بعد تلك الحادثة المؤلمة، أن تتوجّه عائلته إلى مقاطعة كيبيك حيث درس المسرح فـي جامعاتها. ثمّ بدأت مسيرته الأدبيّة والمسرحيّة، وقد  تجذّرت فـي ثلاث ثقافات يجمع بينها الكثير، ولكن لكلّ منها نكهة خاصّة بها. وقد تجلّت هذه المشارب الفكريّة المختلفة والمتقاربة فـي آنٍ معًا فـي مسرحيّاته لتعطيها نكهة حضاريّة تحاكي الإنسان، أينما كان وإلى أي وطن انتمى. فالتّعدّد هذا هو مصدر غنى وليس مصدر تناقض. والشّعور بالغربة l’exil ليس بالضّرورة مرتبطًا بالابتعاد عن الأرض إنّما هو مرتبط بحالة ذهنيّة معيّنة État d’esprit.

لقد وفّرت مقاطعة كيبيك إطارًا فكريًّا راقيًا، انطلق منه معوّض ليصل إلى العالميّة. وبالرّغم من ذلك، طفت على السّطح مسألة الهويّة والانتماء والعلاقة بالأرض فـي مسرحه. فنحن أمام هويّات فكريّة وأدبيّة متعدّدة طبعت أدب معوّض الذي تحوّل من كاتب مهاجر écrivain migrant إلى كاتب من كيبيك écrivain québécois.

تتناول مسرحيّته "الحرائق" Incendies قصّة شقيق وشقيقته يتوجّهان، بحجّة البحث عن شقيقتهما نوال، إلى الشّرق الأوسط فـي رحلة طويلة تهدف إلى البحث عن هويّتهم وجذورهم وعلاقتهم بالأرض. تظهر مسرحيّة "الحرائق" توق معوّض إلى العودة إلى الأصول واكتشاف الأرض التي جاء منها، ومحاولة مصالحتها مع الذّاكرة التي تضرّرت كثيرًا بفعل الحرب فـي لبنان.

وفـي حركة مسرحيّة أخرى يسرد معوّض قصّة شاب يأخذ جثة والده ليدفنها فـي أرض الوطن. وكيف أنّه واجه صعوبات كثيرة على طريق السّفر وعند وصوله إلى الوطن. هذه الوقائع تدلّ على أنّ معوّض لم يستطع أن يدفنّ فـي عقله وذهنه وقلبه أرض الأجداد التي جاء منها. لذلك يبقى موضوع الانتماء والعلاقة بالأرض معلّقًا ويتأرجح صعودًا ونزولًا.

أمّا الكتّاب اللّبنانيّون بالفرنسيّة فـي كيبيك، فتنضح علاقتهم بالأرض الأم من كلّ صفحات كتبهم. ولهذا السّبب، وُسمت مؤلّفاتهم بطابع الأدب المهجريّ. فعبلى فرهود على سبيل المثال تعود بالذّاكرة إلى أدقّ العادات والتّقاليد الاجتماعيّة التي طبعت طفولتها فـي لبنان.لجأت إلى الكتابة لكي تُفرغ ما فـي صدرها من إشكاليّات وتحديّات ترتبط بالهويّة وعلاقتها بالأرض الأم التي اضطرّت إلى تركها إلى بلاد جديدة أعطتها الكثير، ولكن من دون أن تتمكّن من محو ذاكرتها التي حملتها معها من بلاد الأرز والياسمين، كما تقول فرهود فـي إحدى محاضراتها:

“J’ai poussé dans une lisière, j’ai migré en naissant, et c’est dans cet espace-la que je vague, que je me promène, que j’apprends, entre l’amorçage et l’errance. Cette lisière aurait pu me tuer, c’est vrai, elle m’a donné, peu a peu la liberté d’apprendre la vie dans son état le plus brut, le plus primaire; elle m’a forcé à devenir ce que je suis, ou comme disent les chinois, à devenir de moins en moins ce que je ne suis pas.”[6]

وتضيف فرهود أنّ الفراق عن أرض الآباء والأجداد ولّد فـي نفسها ألمًا لا حدود زمنيّة له، وتتمنّى لو توقّف الزّمن على عتبة سنواتها السّتّ الأولى التي قضتها فـي بلاد الأرز والياسمين.

“Je parlerai toujours de cette solitude infinie qui est de se retrouver en terre étrangère à l’âge de six ans… Quand on a mal, quoique l’on soit, on a toujours six ans, peut-être moins et on est toujours en terre étrangère.”[7]

أمّا الكاتبة فريدا عنبر فقد تفاعلت بشكلّ أوسع مع تقاليد مقاطعة كيبيك، وتحرّرت فـي مؤلّفاتها من الكثير من العادات والتّقاليد التي طبعت حياة المرأة فـي أرض الأجداد. فقصّتها الأولى تحاكي علاقة حبّ بين رجل أعمال لبنانيّ ثريّ وامرأة فرنسيّة متحرّرة من كابوس المال وتبحث عن راحتها  Bien-être. ولكنّ هذه المغامرات الأدبيّة فـي مجال القصّة لا تمحو تعلّق فريدا عنبر بوطنها الأم وأرضه وأرزه وياسمينه. والأهمّ من ذلك، أنّها تريد أن تنقل إلى أطفال بلدها المهاجرين حلاوة الوطن العتيق ولذّة العيش فيه. فكتبت عدّة مؤلّفات عن هذا الموضوع نذكر منها:

Un été au Liban avec Téta, Raconte-moi ton Liban Jeddo.

تريد فريدا عنبر نقل تجذّرها فـي بلاد الأرز والياسمين إلى الأجيال النّاشئة ليبقى حيًّا فـي ذاكرتها.


العائلة

تشكلّ حصانة العائلة وديمومتها العنصر الثّاني في أدب قصص الأرض والالتزام: فالعائلة يجب أن تبقى موحّدة وأن تعيش في الرّيف تحت سلطة ربّ العائلة، والأولاد يجب أن يعملوا في الحقول تحت سلطة الأهل، وبخاصّة ربّ العائلة. وعندما يشيخ الأهل يتوجّب على الأولاد أن يعتنوا بأهلهم وأن يحافظوا على الأرض بعد رحيلهم قبل أيّ شيء آخر: فالأرض لا تُباع مهما كانت الأسباب وعلى الأولاد الحفاظ عليها تحت طائلة الحرم أو الاتّهام بالخيانة. وهذا ما حدث عندما قرّر أحد أولاد بطل قصّة باتريس لاكومب الرّحيل فقامت الدّنيا ولم تقعد.

وعندما قرّر الولد الرّحيل كانت عمليّة الحصول على موافقة الأب الأكثر صعوبة، وقد تولّت إقناعه ربّة العائلة. وفي خطوة يائسة للحفاظ على الولد الثّاني تنازل له أهله عن كلّ أراضيهم. وقد جلب ذلك الوبال والفقر للعائلة، وكأنّ التّخلّي عن الأرض يجلب اللّعنة والفقر والعوز. وبالفعل أهمل الولد الثّاني أرضه فاضطرّ الأهل بعد رزوحهم تحت الدّيون أن يتخلّوا عنها، وأن ينتقلوا إلى العيش في ضواحي إحدى المدن في ظروف صعبة وقاسية، حيث لم تتوفّر لهم أبسط مقوّمات العيش الكريم.

ولكنّ هذه النّظرة المثالية إلى العائلة لا تعني عدم وجود مشاكل وصراعات عائليّة بشأن القيم والثّروات وملكيّة الأرض. وقد انتقد أنصار الحركة الأدبيّة المضادّة لأدب الأرض والانتماء هذه الانحرافات التي عصفت بالعائلات التي تعيش في الأرياف. وفي الواقع، ضاق الكثير من الشّبّان من الحياة المملّة في القرية، ومن السّلطة الخانقة التي كان يمارسها أهلهم. فأحد أبناء بطل قصّة "الأرض الأم" ترك أهله لأنّه اختار حرّيّته قبل أيّ شيء آخر. نجد الشّعور نفسه في قصّةLe Survenant  وهي تعتبر آخر قصص أدب الأرض والانتماء التي ركّزت على التّناقض بين الحياة في الرّيف والحرّيّة.

الأمر نفسه  حصل مع بطلة قصّة ماريا شبدولين Maria Chapdelaine التي كانت تعيش في الرّيف، وفضّلت في النّهاية الزّواج من أحد ساكنيه، وإنْ من دون قناعة. شكلّت هذه النّهاية بداية لتراجع أدب الأرض والانتماء في كيبيك لأنّ المجتمع أخذ بالتّحوّل، بحيث إنّ الكثيرين فضّلوا الحياة في المدينة على القرية، وفضّلوا الحرّيّة على الخضوع لتقاليد اجتماعيّة صارمة تتحكّم بحياة الفرد.

ونجد فـي الشّرق، وفي لبنان تحديدًا، النّظرة نفسها إلى العائلة التي تزداد تماسكًا كلّما ارتبطت بالأرض، والعكس صحيح لأنّ الحياة في المدينة تدمّر العائلة وتفسّخها. أمّا فرج الله الحايك فقد أعطى صورة قاتمة عن المجتمع القرويّ، حيث يسود برأيه الفساد والصّراعات بشأن المال والنّفوذ والتّطيّر. وهذه الصّورة التي يرسمها ليست فـي الواقع الصّورة الحقيقيّة للمجتمع اللّبنانيّ وإنْ كان يعاني من بعض المشاكلّ الاجتماعيّة التي توجد في كلّ المجتمعات. فأبطال قصص الحايك يتخبّطون في مشاكلّ وتحديّات اجتماعيّة لا قدرة لهم على تحمّلها.


الإيمان

يشكلّ موضوع الإيمان المحور الثّالث في محاور أدب الأرض والانتماء. فالإيمان الذي تجسّد بالكنيسة كان محوريًّا في حياة أهالي مقاطعة كيبيك حتّى أواخر القرن الماضي. وقد لعبت الكنيسة الكاثوليكيّة دورًا كبيرًا في تشجيع الأهالي على العيش في الرّيف والعمل في الأرض. فقصّة "الأرض الأم" لباتريس لاكومب تشدّد على دور الإيمان بالله والاتّكال على رحمته في كلّ شيء، وكذلك على القيام بالفروض والواجبات الدّينيّة.

ولكنّ هذا الإيمان التّام بالقدرة الإلهيّة، والذي كان في معظمه اجتماعيًّا وليس نابعًا عن خيارات حرّة وعن فهم حقيقيّ للدّين، ولّد مع الوقت ردّة فعل عنيفة برفض الدّين، أضف إلى ذلك أنّه بعد انحسار أدب الأرض والانتماء فـي كيبيك بعد الحرب العالميّة الثّانية، ابتعد عدد كبير من النّاس عن الكنيسة بسبب الهجرة إلى المدينة، وبسبب التّيّارات الفكريّة والأدبيّة الجديدة الرّافضة هذا الإيمان.

في موازاة ذلك، كان للكنيسة في لبنان الدّور نفسه لمثيلتها في كيبيك فيما خصّ أدب الأرض والالتزام. وفي الواقع فإنّ أكثر ما يجمع بين الاثنين هو كونهما كنائس وطنيّة Eglises Nationales ساهمت في النّضال السّياسيّ من أجل الحفاظ على حرّيّة الجماعة المؤمنة واستقلالها. أمّا نقطة الاختلاف بين الاثنين فهي أنّ بعض الكتّاب اللّبنانيّين بالفرنسيّة هاجموا رجال الدّين anti-clérical ولكن بقيوا على إيمانهم بالله. فالشّرق مهد الدّيانات الثّلاث الكبرى في العالم، يلعب فيه الدّين دورًا حاسمًا في حياة النّاس. وفي الواقع، هنالك الكثير من التّديّن والقليل من الإيمان الحقيقيّ، لذلك يتّهم فرج الله الحايك المُزارعَ اللّبنانيّ بأنّه متطيّر في موضوع الإيمان.

والملاحظ أنّ معظم قصص فرج الله الحايك تحمل عناوين دينيّة أو أسماء شخصيّات مستوحاة من الكتاب المقدّس. نذكر على سبيل المثال La fille d’Allah وغيرها.

أمّا نقطة التّمايز الرّئيسيّة في النّظرة إلى الله وإلى الإيمان بين الأدب اللّبنانيّ بالفرنسيّة وأدب كيبيك فهي الدّعوة إلى التّعايش في لبنان بين المسيحيّين والمسلمين. وهذا الأمر ناتج بالطّبع عن التّعدّدية الدّينيّة في لبنان. في هذا الإطار يدعو شارل القرم شريكه المسلم في الوطن إلى التّعايش والتّآخي لأنّ هذه الدّعوة، برأيه، هي فـي صلب الإيمان المسيحيّ.[8]

بالمحصّلة يلعب الإيمان دورًا كبيرًا في أدب الأرض حيث يشكلّ التّقيّد بالعادات والتّقاليد والطّقوس الدّينيّة أمرًا أساسيًّا في حياة سكّان الرّيف، وبالمقابل عملت الكنيسة على تعزيز هذا العيش وتشجيع أهل الرّيف على التّشبّث بأرضهم، لأنّهم بذلك يحافظون على هويّتهم التي تفسدها حياة المدينة لما تحتوي عليه، بنظرهم، من مخاطر على النّفس والجسد. ويتبيّن أيضًا من خلال حياة عدد كبير من أبطال قصص الأرض والانتماء أّن إيمانهم سوسيولوجيّ اجتماعيّ، وقد يصل أحيانًا إلى التّطيّر. علمًا أنّ الدّين ما زال يلعب دورًا كبيرًا في حياة المشرقيّين، بينما سيطرت العلمانيّة على الغرب، ومن بينها مقاطعة كيبيك.

اللّغة الفرنسيّة

شكلّت اللّغة الفرنسيّة إحدى الوسائل الأساسيّة لمجابهة الهيمنة الأنكلوسكسونيّة على الأقليّة الفرنسيّة التي كانت تعيش في كندا، وتقيم بشكلّ أساسيّ في مقاطعة كيبيك. استعمل معظم كتّاب قصص الأرض والانتماء لغة فرنسيّة صافية، وأضافوا إليها بعض المفردات واللّهجات المحليّة. ناضل سكّان مقاطعة كيبيك من أجل جعل اللّغة الفرنسيّة لغة رسميّة، وليس فقط لغة عاميّة تستعمل في الحياة الخاصّة. وكان لهم ما أرادوا بعد عقود طويلة من النّضال. وقد انتقلت الفرنسيّة من لغة محليّة مناطقيّةLangue locale régionale إلى لغة رسميّة معترف بها. ساعدت اللّغة الفرنسيّة مقاطعة كيبيك على التّمايز عن الحكومة الاتّحاديّة في كندا والتي جعلت منها إحدى اللّغات الرّسميّة الأساسيّة في كيبيك بشكلّ خاصّ، وفي عموم كندا بشكلّ عام.

شكلّت اللّغة الفرنسيّة للكتّاب اللّبنانيّين لغة نضال ضد الاحتلال العثمانيّ. حيث اتّخذ الكتّاب اللّبنانيّون بالفرنسيّة من باريس مقرًّا لنضالهم من أجل استقلال لبنان وبلدان المشرق عن السّلطنة العثمانيّة في القرن التّاسع عشر.

وبعد إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠ نشأ جدل كبير بشأن دور اللّغة الفرنسيّة في لبنان التي أصبحت اللّغة الرّسميّة  للبلاد بين عامي ١٩٢٠ و١٩٤٣. استمرّ الجدل بعد استقلال لبنان في عام ١٩٤٣ بين اللّغتين العربيّة التي أصبحت اللّغة الرّسميّة  للبلاد وبين الفرنسيّة التي أصبحت اللّغة الرّسميّة  الثّانية بعد العربيّة. أمّا الكتّاب اللّبنانيّون بالفرنسيّة فقد كتبوا بهذه اللّغة ليس لأنّها "لغة استعماريّة" إنّما بسبب من حبّهم لها ورقيّها وجماليّتها وتمكّنهم منها، فعبّروا عما يختلج في صدورهم من مشاعر الحبّ والألم والانتماء، وارتقى بعضهم إلى مستوى كبار الكتّاب بهذه اللّغة في العالم.

لجأ الكتّاب اللّبنانيّون بالفرنسيّة في أدب الأرض والانتماء إلى استعمال هذه اللّغة للتّعبير عن مشاعرهم الوطنيّة وتعلّقهم بوطنهم الأم. وعلى غرار كتّاب مقاطعة كيبيك الذين استعملوا كلّمات علميّة في قصصهم لجأ فرج الله الحايك إلى ترجمة بعض الأمثلة الشّعبيّة والعبارات المحليّة والفرنسيّة فقوله مثلا: اليد التي لا تستطيع عضّها، قبّلها وادعُ عليها بالكسر.

La main que tu ne peux pas mordre, baise-là et souhaite qu’elle se casse.

وقد أعرب حايك عن حبّه لفرنسا في مناسبات عديدة، مضيفًا أنّ الكتابة بالفرنسيّة هي مسألة خيار حرّ وليس تبعيّة.

Ce sentiment que nous avions pour la France, l’histoire des relations entre les peuples ne lui a pas encore trouvé un nom qui le rend exactement. Il me semblait que j’étais amoureux d’une femme[9]

 الخلاصة

يشكلّ موضوع الأرض والانتماء أحد المحاور الرّئيسيّة في تاريخ الأدب في مقاطعة كيبيك وفي الأدب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. وفي الواقع، توجد نقاط مشتركة وأخرى مختلفة في مقاربة موضوع الأرض والانتماء. فمن جهة أولى، ازدهر أدب الأرض والانتماء في كيبيك في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر حتّى نهاية الحرب العالميّة الثّانية. بعدها، نشأ تيّار مضادّ لهذا الأدب عُرِف باسم الأدب المناهض لأدب الأرض والانتماء في الفنّ القصصيّ Roman anti-terroir. أمّا الأسباب التي تفسّر ذلك الارتداد فهي الشّعور بأنّ أدب كيبيك أضحى غريبًا عن التّيارات الفكريّة التي طبعت الأدب الفرنسيّ، كون أدب الأرض والانتماء لا يشكلّ محورًا أساسيًّا من محاور الأدب الفرنسيّ - على الأقلّ في المراحل المعاصرة . فأدب الأرض والانتماء فـي فرنسا يعود إلى القرن السّادس عشر، وأبرز أعلامه الشّاعر "دو بيليه" Joachem du Bellay الذي عبّر في مجموعته الشّعريّة التي تحمل عنوان "النّدم" Les regrets عن شوقه إلى العودة إلى وطنه، مفضّلًا منزله الصّغير في الرّيف الفرنسيّ على العيش في قصور روما الخالدة والفخمة.

وقد ركّزت هذه المدرسة الفكريّة الجديدة، المناهضة للمثاليّة التي طبعت قصص الأرض والانتماء، على النّواحي السّلبيّة للعيش في الأرياف. وكذلك شدّدت على المشاكلّ والمعضلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي عصفت بالأرياف، وشجّعت على الهجرة إلى المدينة، مفرغةً الأرياف من الكثير من مزارعيها وسكّانها. ومن أبرز هؤلاء الكتّاب رينغيه Ringuet، البير لا بيرج Albert Laberge، وماري كلّير بليه Marie Claire Blais.

انقلب أدب كيبيك رأسًا على عقب، فابتعد عن أدب الأرض والانتماء وعن الدّين والإيمان والكنيسة، مركّزًا على الأدب العالميّ الذي يتخطّى - برأي البعض - الأدب المحلّي. وقد انتسب هؤلاء الكتّاب إلى مدارس فكريّة جديدة، وصنّفوا الكتّاب الوافدين إلى مقاطعة كيبيك في خانة الأدب المهجريّ، ومن بينهم معظم الكتّاب اللّبنانيّين في مقاطعة كيبيك باستثناء الكاتب المسرحي وجدي ملّاط. وقد جلب الكتّاب اللّبنانيّون وزملاؤهم المهاجرون من إفريقيا والشّرق الأوسط وأصقاع آسيا حبّهم وتعلّقهم بأرض أجدادهم وتقاليدهم إلى الوجهة الجديدة، وعبّروا عن ذلك في قصصهم وشعرهم ومسرحيّاتهم التي قُدِّمَت على خشبة مسارح مقاطعة كيبيك، فإذا بهم يمجّدون الأرض التي جاءوا منها، مؤكّدين استمرارهم بالانتماء إليها ولو فكريًّا وأدبيًّا.

في المقابل، اتّخذ الأدب اللّبنانيّ بالفرنسيّة منحىً مختلفًا في خواتيمه. صحيح أنّ كتّاب الجيل الثّاني، ومعظمهم من مجموعة المجلّة الفينيقيّة، مجّدوا الأرض والطّبيعة والحياة في القرية إلّا أنّه لم تنشأ ردّة فعل رفضيّة وسلبيّة كما حدث في كيبيك بموضوع الأرض والانتماء. وعلى الرّغم من أن كتّاب الجيل الثّالث قد خرجوا من إطار طابع الأدب اللّبنانيّ بالفرنسيّة المحليّ إلّا أنّهم حافظوا على ارتباطهم بالأرض ودورها في تعميق الانتماء والأصالة والقيم. فالذي حدث في أدب كيبيك كان ثورة على مفهوم الأرض وعلاقتها بالفرد وعلى الدّين وعلى القيم باسم تجارب أدبيّة تنطلق من الفرد ورؤيته للآخر في الدّاخل والخارج.

وعلى الرّغم من ثورة بعض الكتّاب اللّبنانيّين بالفرنسيّة على بعض القيم والدّين - تحديدًا على بعض رجال الدّين خاصّة في قصص فرج الله الحايك - فإنّ الأدب اللّبنانيّ بالفرنسيّة استمرّ على تمسّكه بالأرض ولو بمقاربة أدبيّة مختلفة. فالشّاعر جورج شحادة، الذي يعتبره الكثير من النّقّاد كاتبًا ينتمي إلى الأدب الفرنسيّ، لم يتخلَّ عن أدب الأرض والانتماء، إنّما عبّر عنه بأسلوب رمزيّ من خلال تأطير هذا الانتماء للأرض، بحيث أصبح أكثر شموليّة وكونيّة. ومن الأمثلة على ذلك قصيدته الرّائعة التي تحمل عنوان "إلى الذين يذهبون" A ceux qui partent، والتي تخفي في حناياها ارتباطه بأرض وطنه الذي غادره رغمًا عنه بسبب تفجّر الحرب في لبنان .[10]

مع اندلاع الحرب في لبنان، عاد مفهوم الأرض والانتماء إلى الواجهة خاصّة في الفنّ القصصيّ الذي تناول الحرب بمختلف جوانبها الإنسانيّة والوطنيّة والحضاريّة، فظهرت مجموعة كبيرة من الكتّاب شدّدت على مفهوم الولاء للأرض وللوطن. نذكر من هؤلاء الأب منصور لبكي في قصصه الجميلة التي ركّزت على مفهوم الأرض والانتماء  l’appartenance. وبرأيه ينتمي كلّ إنسان إلى بقعة جغرافيّة محدّدة من العالم، والسّؤال الأوّل الذي يواجه المهاجر أو المسافر هو: من أين أنت؟ ويشكلّ كتابه "كفرسما"- أي قرية السّماء - تجسيدًا لأدب الأرض والانتماء لأنّها تروي قصّة تعلّق سكّان كفرسما بأرضهم حتّى الشّهادة والاستشهاد. ومن الكتّاب الآخرين لا بدّ من أن نذكر شريف مجدلاني ومؤلّفه "البيت الكبير" La grande maison، الذي يروي قصّة هجرة عائلة هربًا من الظّلم واستقرارها في منطقة أخرى من الوطن تجذّرت فيها ودافعت عنها بشراسة. وقد تجسّد ذلك من خلال البيت الكبير الذي تحتفظ جدرانه بقصص العزّ والبطولات والمآسي التي عصفت بحياة العائلة التي عاشت فيه. وقد اجتاز المنزل الحرب العالميّة الأوّل بصعوبة، ولكنّه عاد إلى عزّه القديم مع حلول الانتداب الفرنسيّ على لبنان في عشرينيّات القرن الماضي.

أمّا سبب شطحات أدب كيبيك فتعود إلى محاولة اللّحاق ببعض التّيارات الفلسفيّة والسّياسيّة والفكريّة التي ظهرت بعد الحرب العالميّة الثّانية، وعلى رأسها نظريّة الـ Multiculturalisme.

إنّ العودة إلى الطّبيعة والأرض مطبوعة في حنايا ووجدان كلّ كائن بشريّ من دون أن يعني ذلك تقوقعًا وانغلاقًا. وعلى الهامش لا بدّ من التّذكير بأنّ مقاطعة كيبيك تتميّز بالرّقي الإنسانيّ الخالص واحترام حقوق الفرد وحقوق جميع الأثنيّات والقوميّات التي تعيش في كنفها.

المراجع

• Anbar,Frida. Un été au Liban avec téta. Québec: 2014.

• Corn, Charles. La montagne inspire. Beyrouth: Editions de la Revue Phénicienne, 1962.

• Farjallah Haik, Al-Ghariba, Liban, Zouk Mikael, 1947, p.51

• Ferhoud, Abla. Le bonheur à la queue glissante. Québec: goodreads, 1998.

• Haik, Farjallah. La Fille d’Allah. Paris :Plon, 1949.

• Labaki, Georges. Anthologie de la littérature libanaise d’expression française, Beyrouth: NDU Press, 2018.

• Lacombe, Patrice. La terre Paternelle (1846). Québec: La Bibliothèque éléctronique du Québec, Volume 12, 2021.

• Mouawad, Wajdi. Incendies. Québec: Playwrigths, 2003.



*    رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة ENA-LIBAN.

[1]    نستعمل عبارة الأرض الأم علمًا أنّ التّرجمة الحرفيّة هـي الأرض الأب.

يتناول أدب الأرض والانتماء فـي كيبيك أربعة مواضيع رئيسيّة هي: الأرض، اللّغة، العائلة والدّين وضرورة التّمسك بهذه القيّم ونقلها من جيلٍ إلى جيل. بالمقابل، يقدّس بعض الكتّاب اللّبنانيّين باللّغة  الفرنسيّة الأرض وفـي مقدّمتهم الكاتب فرج لله حايك الذي اعتبر أنّ العلاقة بين الإنسان والأرض روحيّة. وقد تناول فـي قصصه الحياة فـي القرية والعادات والتّقاليد والمرأة وعلاقتها بالرّجل والحبّ والموت والصّراعات بشأن التّقاليد. ومن أبرز كتبه "بنت الله" La Fille d’Allah و"أبو نصيف" Abou Nassif و"الله لبنانيّ" Dieu est Libanais.

[2]    Patrice Lacombe, La terre paternelle, p.10, Consulté le 23 mai 2021

[3]    Patrice Lacombe, La terre paternelle, p.10.

[4]    Denise Ammoun, Liban, Un grand écrivain, F. Haik, Beyrouth, 1973.

[5]    Farjallah Haik, Al-Ghariba, p.51.

[6]    Anne de Vaucher, Entre l’amorçage et l’errance, http://books.opendetuin, consulté le 1 juin, 2021.

[7]    Anne de Vaucher, ibid.   

[8]    Charles Corn, La montagne inspire.

[9]    Denise Ammoun, Liban, Un grand écrivain, F. Haik.

[10]   قيل إنّ جورج شحادة كان يرفع سمّاعة هاتفه في باريس، ويتّصل برقم هاتفه في لبنان لكي يسمع صوتًا ولو بعيدًا صادرًا من وطنه الأم.

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق