الإمام شمس الدّين: لا يوجد أساس فقهيّ لإلحاق الشّيعة بمشاريع عابرة لحدود أوطانهم السّياسيّة

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الدُّكتور عليّ خليفة

لماذا لستُ شيعيًّا

تنبيه

هذا المقال خطيرٌ وعسير. قد ينتهي في مبتدأ كلماته، إن اكتفى القارئ بثلاث منها، وقرّر أن يختم المقال عند عنوانه المستفِزّ. ومع ذلك، فقراءة المقال كلّه قد تفضي إلى ترك جلّه، وقلب معناه رأسًا على عقب.


توضيح

عام 1927، وقف برتراند راسيل ملقيًا محاضرة لامعة - وعويصة في آن، بعنوان "لماذا لستُ مسيحيًّا"، وفيها نقاش فلسفيّ يبدأ مع سلوك المتديّنين، وينتهي في العقيدة والإيمان والدّين وشخصيّة يسوع[1]. وإنّي غيرُ ذي صفة لاستدعاء ما في المحاضرة الفلسفيّة الشّهيرة واجترارها في إطار دينيّ موازٍ، ثمّة مَن سبقني إلى ذلك[2]. لذلك آثرتُ أن أستلهم ما دعا الفيلسوف البريطانيّ إلى إسقاطه: أي مطابقة تحديد من هو المسيحيّ مع تعريف الإنسان الصّالح. طبعًا، سقطتُ أيضًا في فخّ القوّة الجاذبة للعنوان المستفزّ نفسه، فوددتُ استحضاره إلى الهلال الخصيب بتنوّعه الدّينيّ، ولكنْ المخصّب شيعيًّا اليوم تحديدًا في لحظة استنفارٍ شديدٍ للغريزة المذهبيّة الشّيعيّة، في إطار الطّائفة في حالتها القصوى[3].

استفسار – من هو الشّيعيّ الّذي لستُ إيّاه؟

في اللّحظة الّتي خرج فيها هتاف "شيعة، شيعة، شيعة" مرفوعًا بوجه المتظاهرين في السّاحات والمعتصمين بطلب الإصلاح في أمّتهم... ومن بينهم شيعة وموارنة وسنّة وغيرهم وغير متديّنين، وفي اللّحظة الّتي أصبحت الطّائفة كالتّهمة، فأنا لستُ متّهمًا.

ومن ذي قبل، في اللّحظة الّتي قيل فيها إنّ الانسحاب السّوريّ من لبنان يشكّل خطرًا مصيريًّا على الطّائفة الشّيعيّة الّتي أحرزت مكانتها الرّاهنة في الواقع اللّبنانيّ بفضل تحالفها المتين مع النّظام في سوريا، بدلًا من أن تكون اللّحظة للتّوحّد مع سائر اللّبنانيّين في إرادة التّحرّر والعيش معًا والنّظرة المشتركة إلى مستقبل الوطن – في تلك اللّحظة، أنا لستُ شيعيًّا.

الشّيعيّ الّذي لا يخرج معترضًا على قرار مسبق ومسقط يحُول دون مصادرة حرّيته الشّخصيّة وإمرة نفسه، فلا صوتَ شيعيًّا يعلو على ما تقرّره الشّيعيّة السّياسيّة، ولا مكان للفرديّة في المشهد العامّ الّذي ترسمه الجماعة – فأنا لستُ إيّاه.

المائة ألف... من المسلّحين المجهّزين الذين أُعلن عن عديدهم وعدادهم في معرض التّهديد والوعيد أثناء التّطرّق إلى قضايا سياسيّة داخليّة لا في مواجهة عدوٍّ داهم أو خطر خارجيّ قادم – فإنّي لستُ الشّيعيّ الواحد بعد المائة ألف.


استدراك – " الشّيعيّة السّياسيّة" كإحدى تحوّلات الصّيغة الطّائفيّة

للشّيعيّة السّياسيّة أخوات، لعلّ البكر كانت تُدعى "المارونيّة السّياسيّة" على امتداد الجمهوريّة الأولى، ثم ورثتها "السّنيّةُ السّياسيّة" بعد اتّفاق الطّائف إلى أن انقلبت عليها "الشّيعيّة السّياسيّة" بالتّوازي مع الانقلاب على الطّائف. ولا شكّ في  أنّ صيغة ائتلاف الطّوائف الّتي قامت على أساسها دولةُ لبنان الكبير أنتجت توازنات هشّة ومصالح متغيّرة ومبنيّة على خلاف مصلحة المجتمع العامّة، وصولًا اليوم إلى الشّيعيّة السّياسيّة كانعكاس راهن للطّائفيّة في صورتها القصوى. في هذا السّياق، يقول محمّد حسين شمس الدّين (2007): "كان لبنان على الدّوام جميلًا وفتّانًا إلى حدٍّ يُغري بعضَ طوائفه، بشكل دوريّ، وفي لحظة انتفاخ الرّأس، أي في الحالة القصوى من استشعار القوة الذّاتيّة، يغريها بمغامرة الاستحواذ عليه، وإعادة رسم صورته على شاكلتها ومثالها الافتراضيّ. وهو ما يحدث حاليًّا مع الشّيعيّة السّياسيّة بقيادة نفرٍ من صدور المتألّهين. بيد أنّ تلك المغامرات جميعًا قد عادت بخراب عظيم على مرتكبيها خصوصًا، وعلى لبنان عمومًا. كذلك أثبتت التّجربة أنّ لبنان الجميل والفتّان هذا ليس مطواعًا كما يتخيّلون ويأملون، بل يمتلك من قوّة التّمنّع والمعاندة ما يكفي لإعادة الصّواب إلى الرّؤوس المنتفخة".

اليوم، تحتكر الشّيعيّة السّياسيّة الطّائفة الشّيعيّة احتكارًا كاملًا، تجاوز العموميّات إلى التّفاصيل الدّقيقة في الحياة الشّخصيّة لأفرادها. فتكون الطّائفة كتلة مرصوصة من قاطرة ومقطورات مستتبعة، لا يشذّ أيّ صوت فيها، تحت شعار مصلحة الطّائفة العليا ، وبذريعة أنّ الوضع الحرج لا يحتمل أيّ اجتهاد آخر.

مفارقة – "الشّيعيّة السّياسيّة" تغتال الشّيعة في أوطانهم وتقليدهم الفقهيّ

درج الشّيعة اللّبنانيّون، على مدى قرون، على تقليد فقهيّ يتّسم بالانتماء إلى مدرسة تشيّعٍ عربيّ، عامليّ – نجفيّ، لم تأخذ يومًا بأحاديّة المرجعيّة الدّينيّة، ولا بسلطة المرجع الدّينيّ السّياسيّة العليا على قاعدة "الولاية العامّة للفقيه". ذلك ما سهّل تبنّي الشّيعة الكيان اللّبنانيّ النّهائيّ في وقت مبكر، واندماجهم في المجتمع اللّبنانيّ التّعدّديّ ،وعدم ارتباطهم حتّى الأمس القريب بقرار سياسيّ خارجيّ.

في بحث مقدّم في مؤسّسة الإمام الخوئيّ في لندن (1999)[4] يشرح العلّامة السّيّد علي الأمين المشروعَ الشّيعيّ، أي مشروع الأئمة، بوصفه مشروعًا توحيديًّا يجمع عموم المسلمين وغيرهم ممّن يعيش معهم على الأرض نفسها ويصنعون معًا التّاريخ نفسه ، اقتداءً بما ورد في عهد الإمام عليّ لمالك الأشتر عن النّاس بما هم أخوان في الدّين أو نظراء في الخلق.

واستطرادًا، يشرح السّيّد الأمين كيف أنّ الحسين سار على مشروع توحيديّ، حين لم يخرج أشرًا ولا بطرًا ولا ظالمًا ولا مُفسدًا بل لطلب الإصلاح. لا مشروعًا انفصاليًّا يعزل الأمّة بعضها عن بعضها الآخر. فالشّيعة ليسوا بذلك فريقًا منفصلًا عن الأمّة، ولا فصيلًا منعزلًا سياسيًّا، ثقافيًّا، عسكريًّا...

وحتّى الأمس القريب، يرى رئيس المجلس الإسلاميّ الشّيعيّ الأعلى الإمام الرّاحل محمّد مهدي شمس الدّين أنّه لا يوجد أساس فقهيّ لانتزاع الشّيعة من أقوامهم وبلدانهم لإلحاقهم بمشاريع عابرة للحدود السّياسيّة للدّول الوطنيّة[5]. ويشرح محمّد حسين شمس الدّين أنّ الأصل السّياسيّ / السّلطويّ لولاية الفقيه العامّة يعود إلى خصوصيّة إيرانيّة وذات نزعة قوميّة ومتّصلة بالبحث عن شرعيّة السّلطة القائمة في الدّولة الإلخانيّة والدّولة الصّفويّة وصولًا إلى الجمهوريّة الإسلاميّة الخمينيّة.

لذلك، عندما أقامت الشّيعيّة السّياسيّة غلواءها على خلفيّة توسّع نفوذ الولاية العامّة للفقيه، أصبحت الشّيعيّة السّياسيّة، للمفارقة، تغتال الشّيعة ضمن الحدود السّياسيّة لبلدانهم، وتغتال بالمناسبة  تقليد الشّيعة الفقهيّ.

في ما يلي، المثال القاطع على الانحراف الخطير للشّيعة في تبلور وعيهم الوطنيّ: ففي حين يكتب الإمام شمس الدّين في وصاياه: "أوصي الشّيعة الإماميّة في كلّ وطن من أوطانهم وفي كلّ مجتمع من مجتمعاتهم أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًّا يميّزهم عن غيرهم. ولا يجوز ولا يصحّ أن يقوموا بأنفسهم وحدهم، وبمعزل عن قوى أقوامهم، بمشاريع خاصّة للتّصحيح والتّقويم"[6]، بالمقابل يقول إبراهيم أمين السّيّد: "نحن لا نستمدّ عمليّة صنع القرار السّياسيّ لدينا إلّا من الفقيه. ونحن في لبنان، لا نعتبر أنفسنا منفصلين عن الثّورة في إيران، بل نعتبر أنفسنا جزءًا من الجيش الّذي يرغب في تشكيله الإمام من أجل تحرير القدس الشّريف. ونحن نطيع أوامره، ولا نؤمن بالجغرافيا، بل نؤمن بالتّغيير"[7] 

وعليه، فإنّ  الشّيعيّة السّياسيّة بارتباطها العضويّ بالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران تغتال مشروع الشّيعة الوطنيّ في لبنان، وتصبح الثّقافة الجهاديّة الخمينيّة الأصوليّة، من حيث نظرتها إلى الحقّ والحقيقة باعتبارهما حكرًا عليها، تغتال كلّ مدرسة الاجتهاد الشّيعيّ.

آفاق للسّلام وللإدارة الهنيّة للتّعدّديّة

قبل أن تصبح ولاية الفقيه العامّة مشروعًا للإطباق على السّلطة، كان الميرزا النّائيني يخوض ثورة فرض الدّستور في إيران 1905، ويعمل على التّأصيل الفقهيّ لضرورة قيام الدّولة المدنيّة وشرعيّتها، آخذًا في الاعتبار متطلّبات إحقاق السّلام والإدارة الهنيّة للتّعدّديّة في المجتمع. لكن الأصوليّة غلبت وتمّ تصديرها، فحطّت رحالها في لبنان وغيره من المجتمعات، ضاربةً وظائف الدّولة وأدوارها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة. فنشأت الأعمال الأمنيّة والأنشطة الاجتماعيّة والاقتصاديّة المرتبطة بأهداف ما فوق وطنيّة، واستُتبعت الدّولة للدّويلة الطّائفية الشّيعيّة وأُسقِطت ثقافةٌ مستوردة من السّياسة والمجتمع في إيران على الشّيعة اللّبنانيّين لتجعلهم جالية أجنبيّة في لبنان (من حيث الرّداء والتّقليد والتّكليف وغيرها من العوامل الثّقافيّة).

إنّ التّطلع إلى الدّولة الحديثة في لبنان، في مستوى برادايم التّعدّديّة المجتمعيّة وتحديّات السّلام، لا يصحّ من خلال تبنّي الشّيعة في لبنان نظريّة ولاية الفقيه العامّة. فكيف تستوي العلاقات بين مكوّنات المجتمعات المتعدّدة دينيًّا في ظلّ ولاية مذهب كامل على غيره، ومؤدّى ذلك كلّه التّسلّط وطموح الحكم والإطباق على المجتمع؟ عندئذٍ، فكلّ شيعي يصحّ ألّا يكون شيعيًّا، ولا يصحّ ذلك فحسب لغير الشّيعة.

____________________________________________________________

* دكتور في علوم التّربية من جامعة جنيف – سويسرا،أستاذ التّربية على المواطنيّة في الجامعة اللّبنانيّة – كلّيّة التّربية.

من مؤلّفاته: "المطران... والشّيطان ؛ قراءات ومحطّات في تجربة غريغوار حداد". وله مقالات علميّة عديدة منشورة في مجلّات محكّمة، منها: "المواطنة والدّولة في الإسلام: نقد الإسلام كنظام حكم". [email protected]

ثبت المصادر والمراجع

• السّيّد،  إبراهيم أمين. الحركات الإسلاميّة في لبنان. مجلّة الشّراع، 1984

• شمس الدّين، محمّد حسين. "الطّائفة في حالتها القصوى: الشّيعة اللّبنانيّون الآن وهنا". دوريّة "هيّا بنا"، 2007.

• شمس الدّين، محمّد مهدي. الوصايا. دار النّهار، 2001.

• الأمين، علي. "الشّيعة ودعوة التّقريب"، محاضرة في مؤسّسة الإمام الخوئيّ – لندن، 1999.

• Russel , Bertrand. Why I am not a Christian. Routledge, 1927.

• Ibn Warraq, Why I am not a Muslim. Prometheus, 1995.



[1]               Bertrand Russel, Why I am not a Christian, Routledge, 1927.

[2]               Ibn Warraq, Why I am not a Muslim, Prometheus, 1995.

[3]   يرد هذا التوصيف في دفتر من دوريّة "هيّا بنا"، تأليف محمّد حسين شمس الدّين، بعنوان "الطّائفة في حالتها القصوى: الشّيعة اللّبنانيّون الآن وهنا"، 2007.

[4]   السّيد علي الأمين، الشّيعة ودعوة التّقريب، محاضرة في مؤسّسة الإمام الخوئيّ – لندن، 1999.

[5]   السّيد علي الأمين، الشّيعة ودعوة التّقريب، محاضرة في مؤسّسة الإمام الخوئيّ – لندن، 1999.

[6]   الإمام محمّد مهدي شمس الدّين، الوصايا، دار النّهار، 2001.

[7]   إبراهيم أمين السّيّد، الحركات الإسلاميّة في لبنان، مجلّة الشّراع، 1984

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق

الأكثر قراءة

الذات والعهد ولبنان

دولة لبنان الكبير 1920 – 2021

الوجه المفقود للمسيحيّين في سورية

الأطفال وصعوبات التعلُّم.

شفاء القلب.

الطاقة الخلّاقة للمعاناة

إختر الحياة

لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟

من الصدق إلى الحقيقة

حبّ مُتفانٍ لأرض مُهملة

فنُّ العيش بتناغم

لماذا أخشى أن أحبّ؟

سائحة

ثق فتتجدّد

السعادة تنبع من الداخل

رحلة في فصول الحياة

القرار - إتّباع المسيح في حياتنا اليوميّة

أسرار الناصِرة

العائلة بين الأصالة والحرّيّة

نحو حياة أفضل (5)

الأيادي الضارعة

موعد مع يسوع المسيح

شبيبة متمرّدة

من يهديني؟

لا أؤمن بهذا الإله

اليقظة

حبّ بلا شروط

في بداية الحياة فرح ورجاء

الشعور بالرضا

في سبيل لاهوت مسيحيّ للأديان

دليلُكَ لفهم الأيقونات.

على درب الجلجلة

المنجد

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

الكتاب المقدس - ترجمة جديدة (حجم وسط)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)