هل غَيّب خطابُ التّيّارَين شعارَ " الرّبيع العربيّ ": الدّيمقراطيّة والإصلاح؟

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الدّكتورة آسيا المهتار – الأستاذ عدنان هريوى

الدّولة الوطنيّة الحديثة: بين الإسلامويّة والعلمانيّة

في خضمّ صراع ثنائيّ بين تيّارين فكريّين، أحدهما متأصّل والآخر مستورد، حدث اهتزاز داخليّ في البنية السّياسيّة العربيّة. تضاربت الآراء واختلفت المواقف، فانتظر المواطن العربيّ نقاشًا فكريًّا أكاديميًّا مثمرًا يُخرجه من الوضعيّة الّتي يعيشها منذ ما قبل سنة 2011، ليجد نفسه في واقع الأمر متخبّطًا بين مطرقة "الإسلامويّة" وسندان "العلمانيّة". تفاعلات بنيويّة وتحوّلات جذريّة جعلت من إشكاليّة الدّين والسّياسة محطّ اهتمام الشّارع العربيّ، ومركز الجدل في مرحلة ما بعد "الرّبيع العربيّ". مصر، وتونس، والمغرب، ودول أخرى حجزت لها مكانًا داخل رقعة هذا النّقاش؛ بعضها بلوره إلى حوار جادّ ومُؤطر، وبعضها ظلّ حبيسًا وسط تخبّطات وتجاذبات وأخذٍ وردّ نتج منه انفصال وانقسام، وصل في بعض الحالات إلى إعادة إنتاج مرحلة ما قبل الدّولة.

لو عدنا إلى تاريخ علاقة الدّين بالسّياسة، لوجدنا أنّ التّفاعلات الحاصلة بينهما ليست وليدة اليوم، بل نتاج مجموعة من الأحداث الزّمنيّة والوقائع الّتي عرفها الإنسان قبل وبعد ظهور مفهوم الدّولة. فأوروبا الّتي عاشت عصرًا في الظّلمات وآخر في الأنوار – على سبيل المثال- اختبرت عصرًا ربَط بين الدّين والسّياسة، وآخر فصَل بينهما، إذ إنّ الأوّل كان تحت قيادة الكنيسة، والثّاني فُصِلت فيه هذه الأخيرة عن السّياسة، وسُحبَ البساط من تحتها، ووضع أمام الشّعب، وذلك بمباركة فلاسفة عصر الأنوار.

فصلُ الدّين عن السّياسة يعني أنّ السّياسة هي الّتي تتدخّل في شؤون الدّين، أمّا فصل السّياسة عن الدّين فيفسَّر بأنّ الدّين هو الّذي يتحكّم في أمور السّياسة. والسّؤال المطروح في الحقيقة يتعلّق بمعرفة مَن هو الطّرف الفعليّ الّذي يتدخّل في أمور الآخر؟ سؤال فكريّ وأكاديميّ بالأساس نقل المواطن العربيّ من داخل بنية مطلبيّة رفعها في تظاهرات ما سُمّي "الرّبيع العربيّ"، والمتلَخِّصة في المطالبة بعدالة اجتماعيّة، بلقمة عيش كريمة، وبوقف ويلات الاستبداد، بغية إعادة حقّه الشّرعيّ الّذي منحه له منظّرو أنظمة الدّيمقراطيّة (تشاركيّة، تمثيليّة..) وأكّدته مبادئ الدّولة الوطنيّة الحديثة، إلى داخل بنية فكريّة ثنائيّة جسّدها الإسلام السّياسيّ من جهة، والتّيّار العلمانيّ من جهة أخرى، ما نتج عنه تيهان المواطن أوّلًا، وضياع شبه كلّيّ للمطالب ثانيًا.

من خلال بحثنا هذا، نسعى إلى إظهار أي مدى يؤدّي خلط المفاهيم (الدّولة/النّظام السّياسيّ، الإسلام/الإسلامويّة..) وتشابكها وعدم القدرة على الفصل بينها إلى إضعاف بنية الدّولة وتغيير توجّهها الحياديّ تجاه الأفراد، بحيث نجد أنّه في بعض البلدان (تفاديًا لاستعمال لفظة الدّولة) في مرحلة ما بعد 2011، نَتَجَ عن سقوطِ النّظام السياسي سقوطُ الدّولة، الأمر الّذي يدفعنا إلى طرح سؤالٍ ثانٍ مرتبط بمدى صلابة مؤسّسات الدّولة في البلدان العربيّة، إن وجدت، وقدرتها على الصّمود في وجه التّغيّرات البنيويّة الّتي تعيشها المجتمعات. وتنبني فكرتنا هذه على مسألة أنّ الدولة تختلف اختلافًا تامًّا عن النّظام السّياسيّ، وأنّ أيّ عمليّة نقل لأيديولوجيا النّظام السّياسيّ إلى الدّولة يُضعف الدّولة أكثر ممّا يقوّي النّظام، فحينما يسقط النّظام، تنهار معه مؤسّسات الدّولة أيضًا.

من جهةٍ أخرى، أوجدت ثنائيّة "الإسلامويّة[1]/العلمانيّة [2]" اختلافًا فكريًّا في المرحلة الأولى ترجّى منه المواطن خيرًا بخاصّةٍ أنّه يؤسّس لنقاش بنيويّ وفكريّ، ولكن ومع مرور الزّمن، تحوّل إلى صدعٍ وجدال، قاد سياسييّ التّيّارين إلى تبادلِ الاتّهامات والتلاسنات، بحيث يتّهم الواحد منهما الآخر بالظّلاميّة والرّجعيّة، والآخر يردّ بذريعة خدمة المخطّطات الغربيّة والأجندات الأجنبيّة؛ وبين هذا وذاك، تَظهر بشكل جليّ وواضح أهمّيّة التّمحيص بهدف التّدقيق والتّوضيح والتّبيان، بخاصّةٍ أنّ الأمر خَرَجَ من إطاره الأكاديميّ الفكريّ، ودخل الحقل السّياسيّ المُتّسمِ بهيمنة المصالح.

وبناءً على ما تقدّم أعلاه، سنسعى في المحور الأوّل إلى تفكيك بنية مفهوم الدّولة الوطنيّة الحديثة، حيث سنقدّم الأسس التّشريعيّة للدّولة الوطنيّة ونبيّنها، في حين سنعالج في المحور الثّاني جدليّة ثنائية الدّين والسّياسة، ومسألة الفصل والتّرابط فيما بينهما.

I. الأسس التّشريعيّة في الدّولة الوطنيّة الحديثة

تتميّز نُظم التّشريع في الدّولة الوطنيّة الحديثة بالاستقلاليّة الكاملة عن أيّ أيديولوجيا كيف ما كان نوعها. فإذا كانت الدّولة العلمانيّة تهدف إلى فصل التّركيبة السّياسيّة عن الجهاز الدّيني، فإنّ الدّولة الوطنيّة الحديثة هي دولة قائمة الذّات لا تعتمد على أيّ مصدرِ تشريع خارج عن الإرادة الشّعبيّة. وباعتبارها كائنًا حياديًّا تجاه الأديان والمذاهب والأيديولوجيّات والأفراد والطّبقات، تسعى هذه الدّولة إلى تفادي تبنّي أيّ أيديولوجيا يمكن أن تمسّ كيانها ووجوديّتها، وتجعل منها دولة حصريّة تخدم فئة معيّنة في مقابل أخرى. فهذه "الخدمة الحصريّة" التي ستسعى الدولة إلى تقديمها، تقوم على أسس تتنافى مع مبادئ المواطنة المتساوية، وتتمّ انطلاقًا من مرجعيّة دينيّة أو عقديّة أو أيديولوجيّة معيّنة. ولو أخذنا على سبيل المثال عمليّة أسلمة الدّولة كسيرورة نقل من قالب محايد إلى قالب مؤدلج نجد أنّ الدّولة تغيّر زاوية الرّؤية ومنهج التّعامل، فهي تتخلّى عن معيار المواطنة في تعاملها مع الشّعب، وتعتمد واحدًا آخر يؤدّي إلى تكريس التّفرقة وتغييب إدارة التّعدديّة، الشّيء الذي سيعجّل من عملية تفكيكها وانهيارها فيما بعد. لذلك حينما نتحدّث عن هويّة معطاة إلى الدّولة أو أيديولوجيا معتمدة من طرف الدّولة، سواء أكانت ذات طابع دينيّ أو أيديولوجيّ، فإنّ التّحليل والدّراسة ينكبّان على تحليل النّعت في نسيان شبه تام للمنعوت. بيد أنّ الرّكيزة والأساس مرتبطان بالدّولة أكثر من الأيديولوجيا المعتمدة.

ولهذا، تستدعي الموضوعية العلمية الأكاديمية تفكيك بنية الدّولة وتحليلها كخطوة أولى وذلك من أجل فهم ماهيّتها والغاية خلف ضرورة ضمان استقلاليّتها قبل الخوض في تحليل النّعت (الأيديولوجيا) ونوع العلاقة الّتي تربطهما.

في الواقع، ترتكز الدّولة الوطنيّة الحديثة على ثلاثة ثوابت مؤسّسة: أوّلها المواطنة المتساوية، ثانيها سيادة القانون، وثالثها شرعيّة الشّعب.

- المواطنة المتساوية

يُقصد بالمواطنة المتساوية تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات مع ضمان ممارسة سليمة ومحميّة للحرّيّات الفرديّة. وهي تهدف إلى إشراك المواطن في الحياة السّياسيّة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق ضمان مساهمته الفعَّالة في تسيير الشّأن العامّ.

وفيما يختصّ بمسألة المساواة في الحقوق والواجبات، فإنّ الدّولة تسعى إلى ضمان مجموعة من الحقوق لمواطنيها وأفرادها كالحقّ في السّكن، والحقّ في العيش الكريم، والحقّ في التّعليم، وغير ذلك من الحقوق؛ إلّا أنّها تفرض عليهم مقابل هذه الحقوق سلسلة من الواجبات. على سبيل المثال لا الحصر، الحفاظ على الممتلكات العامّة، تأدية الضّريبة، حماية المرفقات العموميّة... إلخ.

كما تسهر الدّولة على تمكين جُلّ المواطنين - أقليّةً كانوا أم أغلبيّة - من ممارسة آمنة لحريّاتهم الفرديّة والتّمتّع بها على نحو لا يخالف القانون ، ويسير بهم نحو إنشاء دولة الحقّ والقانون. بالإضافة إلى أنّ المشاركة السّياسيّة الفاعلة في الإطار السّياسيّ تُجيز دمج الفرد في المنظومة السّياسيّة وهيكليّتها، ليكون بذلك طرفًا فاعلًا في تسيير الشّأن العامّ، من خلال التّصويت أو التّرشح في الانتخابات، أو عبْرَ الانضمام إلى جمعيّات وفعّاليّات المجتمع المدنيّ.

- سيادة القانون/الدّولة

في الدّولة الوطنيّة الحديثة، يُمثّل القانون المرجع الوحيد والأوحد للدّولة، وسيادته تمثّل سيادة الدّولة، أي أنّ الدّولة بذاتها تجسيد للقانون، وأيّ خروج عن القانون، يؤدّي حتمًا إلى خروجنا من مفهوم الدّولة. فحين "تأكل" السّلطةُ السياسية الدّولةَ، تتحوّل "الدّولة" من بنية مؤسّساتيّة مملوكة من الشّعب، إلى جهاز في يد النّظام يشرعن به تدخّلاته وتحرّكاته. ويرجع بالذّات إلى طريقة تسيير الدّولة. فمثلًا، حينما تستولي الأنظمة الحاكمة على الحكم، وتدمج أيديولوجيّتها مع توجّه الدّولة، فإنّ هذه الأخيرة تفقد محتواها. وحينئذٍ، يصبح "الدّافع الطّبيعيّ" (أو "حالة الطّبيعة" إن صحّ استعمالها) المحرّك الأساسيّ والمِفصَلَ في عمليّة الحكم، أي إنّ القرارات تصدُر بناءً على رغبة المتحكّم وغريزته، وليس بناء على مجموعة من القوانين المدنيّة المُؤطّرة المؤسّسة لدولة الحقّ والقانون.

- شرعيّة الشّعب

تَستمدّ الدّولة شرعيّتها من الشّعب الّذي يضفي عليها قيمة معيّنة تحدّد مدى صلاحيتها وأجَل ديمومتها. وتُعتبر الإرادة الشّعبيّة الطّرف الوحيد القادر على نزع الشّرعيّة من الدّولة والثّقة من الحكومة، كما أنّه المكوّن الوحيد القادر على تحويل قوة سياسيّة إلى سُلطة حاكمة داخل إطار الدّولة العامّ.

يتضمّن تعريف الدّولة "السّاكنة" كمفهوم أوّليّ[3]، ولكنّ مصطلح "الدّولة الوطنيّة الحديثة" قد حوّل السّاكنة إلى شعب، بمعنى أنّه قد أخرجها من إطارها الدّيموغرافيّ، ووضعها في آخر سياسيّ، مانحًا إيّاها قدرةَ تحديد نسبيّةِ شرعيّةِ الدّولة القائمة. فالدّولة ليست حكرًا على فئة معيّنة أو جهة محدّدة، بل هي عنصر سياسيّ خادم للشّعب ببنياته ومكوّناته المتنوّعة والمختلفة كافّة. لذلك، حينما تصادَر ماهيّة الدّولة من قِبَلِ فئةٍ محدّدةٍ من الشّعب، تغيب مظاهر إدارة التّعدّديّة وتُسخَّر الدّولة لخدمة مصالحَ معيّنة يهيمن عليها الطّابع الشّخصيّ والفرديّ. وبناء عليه، وفي هذه الحالة، يتغيّر الهرم التّراتبيّ والبنية السّياسيّة بحيث تُضحي الدّولة تحت يد السّلطة لا فوقها أوّلًا، وتتحوّل إلى أداة ووسيلة في يد النّظام ثانيًا، لا العكس.

في الواقع المعاش، نجد تمثّلات وانعكاسات عدّة لمظاهر هذا "الاحتكار" في عددٍ من البلدان العربيّة، إذ غالبًا ما نجد أنّ مؤسّسات الدّولة أصبحت مؤسّسات النّظام. فالقضاءُ مثلًا كمؤسّسة قائمة مستقلّة يُضحي في خدمة النّظام عوضًا عن الشّعب. والحكومة، أي السّلطة التّنفيذيّة، تُمسي تنفيذيّة لقرارات رجال النّظام بدلًا من الشّعب. وبالتّالي، تتحوّل الدّولة ككلّ إلى تركيبة أداتيّة ووسيلة تنزيليّة لمخطّط النّظام واستراتيجيّاته؛ وتستمرّ عمليّة تآكل الدّولة من الدّاخل وتضطرد حتّى تصلَ إلى مرحلة الفراغ الدّاخليّ، وبَعدها إلى مرحلة انهيار الدّولة ثمّ إلى حقبة ما قبل الدّولة. وكما أظهرت تجارب "الرّبيع العربيّ"، تسقط الدّولة مباشرة مع أوّل سقوط للنّظام، ويزداد الأمر حدّة حينما تتداخل العوامل الدّاخليّة والأجنبيّة كما في سوريا، واليمن، وليبيا.

إنّ التّفاعل البنيويّ الحاصل بين هذه النّظم التّشريعيّة الثّلاثة - أي المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، وشرعيّة الشّعب - أساس ضمان قاعدة سليمة ومتينة تؤمّن استمراريّة الدّولة وديمومتها. وأيّ عمليّة أدلجة، سواء أكانت أسلمة أم علمنة، تهدّد بشكل صريح وجوديّتها. مع مرور الزّمن -عادة- تتطوّر الدّولة مفاهيميًّا وتطبيقيًّا حتّى تصبح دولة وطنيّة حديثة بمعناها الحاليّ، إلّا أنّ التّجارب التّاريخيّة في البنيات المجتمعاتيّة العربيّة وضعتنا أمام رهانات متعدّدة ومتضاربة. فتجربة الدّولة القوميّة مع جمال عبد النّاصر، وتجارب حزب البعث في سوريا والعراق، والانقلابات العسكريّة في غالبيّة بلدان المنطقة، أظهرت شرخًا واسعًا بين التّنظير والتّطبيق؛ وإذا كانت أوروبا قد انتقلت من مرحلة النّظام الإقطاعيّ المدمج مع سيادة الكنيسة إلى حقبة المواطنة وسيادة الدّولة، إلّا أنّ المنظومة العربيّة الاجتماعيّة، الّتي تتّصفُ ببنية هيكليّة يتداخل فيها الدّينيّ بالقبليّ، قد أنتجت اختلافًا وتنوّعًا تميّز عن نظيره الأوروبيّ، لكنّه تميّزٌ تعارَض مع سعي النّخب العربيّة، السّياسيّة منها أو الأكاديميّة، إلى وضع لبناتِ مؤسّسات مستقلّة تعتمد مبدأ المواطنة في التّعامل مع "السّاكنة" - أي الشّعب - إذ جاءت الأنظمة العربيّة، بمساندة ودعم خارجيّين، لتكرّس هذه القبليّة والتّفرقة الدّينيّة داخل أواصر المجتمعات. ولينتهي هذا التّكريس بإعادة إنتاج بناء المجتمعات المنقسمة داخل البنية السّياسيّة، وترسيخ التّفرقة وتوليد ردود الفعل بناء على معايير قبليّة أو طائفيّة، منتجةً بذلك عمليّة تحوليّة انتقلت في إثرها السيادة من الدّولة والقانون إلى القبيلة والانتماء. فليس من الغريب إذًا أن نجد في الحياة السّياسيّة الواقعيّة العربيّة أمثلة تؤكّد ذلك. ولعلّ الوضع في ليبيا والسّعي نحو إيجاد خليفة لحفتر، باعتباره قائدًا عسكريًّا يتطلّع إلى الحكم، يكون مدعومًا من طرف قبائل المنطقة هو مثال واضح على أنّ المنطلقَ قبليٌّ وليس شعبيًّا، وأنَّ الحلَّ عسكريٌّ وليس سياسيًّا، والنّتيجة إذًا، لن تخرج عن سابقاتها، ولن تخلق بذلك ليبيا استثناءً في هذه الحالة.

II. جدليّة العلمانيّة والإسلامويّة: أيّ استجابة للمطلب الشّعبيّ؟

بعد تفكيك وتحليل بنية الدّولة نظريًّا، ننقل أدوات التّحليل إلى حقل عربيّ تبنَّى ثنائيّة جدليّة أُسّست هيكلتها في مرحلة ما بعد سنة 2011. ونقصد بهذه الثّنائيّة تلك الخاصّة بـ"الإسلامويّة" و"العلمانيّة" الّتي أشرنا إليها آنفًا. إنّ ما حدث في العالم العربيّ في الفترة الزّمنيّة المشار إليها هو بمثابة عمليّة اصطفاف فكريّ، غُيّبت فيه النّهاية السّامية الّتي هي خدمة المواطن وتحقيق حقوقه الكونيّة الّتي أضحت أحلامًا.

في الحقيقة، اتّسم الواقع السّياسيّ بصدام فكريّ بين تيّارين؛ التّيّار الأوّل يدعو إلى "الإسلامويّة"، وتمثّله قيادات الإسلام السّياسيّ، أمّا الثّاني فيردُّ بـ"العلمانيّة" في تخوّف من ضياع الدّولة واحتكارٍ ممنهج من طرف التّيار الآخر. وبين هذا وذاك، يدّعي الاثنان تمثيلَ مطالب الشّعب وتجسيدها خاصّة تلك الّتي جاءت بعد مرحلة "الرّبيع العربيّ". لكنْ في الواقع، حينما ننقّب في مطالب المواطن العربيّ، نجد أنّه لم يطالب لا بهذا ولا بذاك. فيوم خرج إلى الشّارع حاملًا معه حمولة تاريخيّة من القهر والظّلم كان قد عاشها مع حكّام سابقين، خرج وهو يرفع شعار الدّيمقراطيّة، ويطالب بالإصلاح، ويبحث عن لقمة عيش رغبةً منه في تلبيةِ حاجاته الوجوديّة، فيزيائيّةً أكانت أم فكريّة، لكنّه وجد أنّ خطابه المطلبيّ قد أُلبس تارةً ثوبًا دينيًّا، وتارةً أخرى ثوبًا علمانيًّا، وازداد الأمر حدّة حينما أصاب الهلع الأقليّات والأكثريّات الدّينيّة والإثنيّة المكَوِّنة للمجتمعات العربيّة عندما اكتشفت أنّ هويّتها قد تُطمس سواء مع هذا أو ذاك.

تحليلاتنا هذه ليست وليدة افتراضات وتصوّرات خياليّة، بل هي خلاصة وليدة من قلب الواقع المعيش. ففي المغرب على سبيل المثال، خرج الأمين العامّ السّابق لحزب العدالة والتّنمية عبد الإله بنكيران في سنة 2019 ليعلّق قائلًا: إنّ "من يريد تطبيق العلمانيّة وحذف الإسلام عليه أن يعرف ما الّذي يريد الوصول إليه"[4] في حديث وجهّه لأحمد عصيد النّاشط والباحث في الشّأن الأمازيغيّ.. كما لم يتوان هذا الأخير في الرّدّ عليه، واصفًا إيّاه بأنّه "لا يزال يفكّر بعقليّة ابن تيميّة والشّافعيّ"[5]. أمّا في تونس، فإنّ الأمر لم يختلف كثيرًا عن جاره المغرب؛ وفي غالبيّة تصريحاتها الإعلاميّة، وصفت برلمانيّة تونسيّة أعضاء حزب النّهضة بصفات من قبيل "الظّلاميّين" وبأنّهم "أكبر خطر على تونس"[6]. ولا يتوانى الطّرف الآخر الممثِّل تيّار الإسلام السّياسيّ عن استغلال أيّة فرصة تمكّنه من الرّدّ.

عندما نحلّل خطاب التّيّارين نجد أنّه صدام غَيَّب، عن نيّة أو من دونها، أساسَ المشكلة وباطنها. فلقد نسي الخطاب لماذا خرج الشّعب ذات يوم وذات شهر من سنة 2011، وماذا كان المطلب، وماذا كان الهدف. غُيّبت الإرادة الشّعبيّة وتمثيليّتها، وأخذت القيادات تدخل في تلاسنات حادّة، وتصادمات كلاميّة مباشرة، بدل التّعمّق والتّمحيص من أجل تشخيصِ مُركّز للمشكلة، وتلبية المطالب المتكرّرة للشّعوب.

إنّ الدّولة، كما بيّنا، كيان قائم الذّات، ومستقلّ ذو سيادة لا ينتظر أن يشرعنه أحد بأيديولوجيّته أو يتبنّاه ليمنحه الثّقة ويزكّيه. وعادة ما يسعى النّقاش السّياسيّ الوطنيّ إلى إغناء السّاحة السّياسيّة بحلول متعدّدة تمنح الشّعب خيارات متنوّعة قادرة على تنزيل انتظاراته ورؤاه. لكنّ ذلك يستدعي من النّخب السّياسيّة والقيادات التّطرّق إلى صلب المشكلة عن طريق إعداد مشاريع وسياسات تلبي حاجيّاته، وعدم الدّخول في نقاش يراه البعض رجعيًّا ظلاميًّا، ويراه الآخر لاَهُوتيًا. فلا النّور الّذي يدّعي الأوّل حملَه في مواجهة ظلاميّة الثّاني، ولا انتماء الثّاني الّذي يرفعه في وجه "تنصّل" الأوّل، قادران على الرّدّ على مطالب الشّعوب، وتحقيق شعارات ما بعد 2011.

نحن لا ننفي أهمّيّة نقاش هيكليّ ومثمر يفيد بالدّرجة الأولى الشّعوب قبل الأحزاب، ويجعل من القيادات نُخبًا. ولكنّنا ننتقد الرّؤى الّتي تختزل الآخر في خانة "العدوّ"، وترمي عليه الاتّهامات بدل أن تسعى إلى تجاوزها. وهذا الأمر قد يؤكّد ما قاله الرّئيس التّونسيّ "قيس سعيد" حين اعتبر أنّ بعض القادة مجنّدٌ خارجيًّا. ولم يُعَدّ النّقاشُ السّياسيّ حينها موجّهًا لخدمة المصلحة العامّة، بل أضحى مدعومًا من أطراف لا تهمّها إلّا مصالحها الخارجيّة. وهنا يُطرح السّؤال التّالي: هل خطاب الظّلاميّة وخطاب الهويّة خطابان ناتجان عن قناعة، أي إنّهما فكريّان، أم هما موجَّهَان ومدفوعان؟ ولا يخفى علينا كم من دولة عربيّة تعاني الأمرّين وتظلّ محصورة بين سندان الضّعف الدّاخليّ ومطرقة الترّبّص الخارجيّ.

إنّنا بتحليلنا هذا، لا ننزع الهويّة ولا نغوص في أواصر الظّلاميّة، بل نسعى إلى إعادة توجيه البوصلة نحو وجهةٍ طالب بها الشّعب، وفقدت إحداثيِّاتها التّيّاراتُ السّياسيّة العربيّة عامةً، وتيّاراتُ ما بعد "الرّبيع العربيّ" خاصّةً. إنّها عمليّة إعادة توجيه الخطاب صوب نقطة محدّدة، فالالتفاف على نقطة الضّرر لن يعالج الألم الدّاخليّ الّذي تعانيه البنية السّياسيّة العربيّة ولا الّذي يقاسيه المواطن العربيّ، بل سيُدخله في موت سريريّ يرتفع معه الأنين والآهات كلّما طال الزّمن واستمرّ الانتظار.

فالمواطن العربيّ قد دخل في دوّامة شكّ في مؤسّساته الدّستوريّة الوطنيّة. وترجّى خيرًا من ثورات الرّبيع العربيّ لكي يحيي الأمل الّذي فقد بريقَه بعد ويلات الاستبداد الّتي عاشها. وأمام هذا الواقع يجد الحقلان الأكاديميّ والسّياسيّ أنّهما أمام رهان مفصليّ قد يساهم في إعادة إحياء الثّقة المفقودة والغائبة. وبما أنّ لا شرعيّة بعيدًا عن شرعيّة الشّعب، فربما نتمكّن من الحديث مستقبلًا عن دولة وطنيّة. لكنّ تحقيق ذلك يستدعي نقاشًا بنّاءً هادفًا، لا صدامات وتبادل اتّهامات، كما أشرنا.


_____________________________________________________________

*  أستاذة محاضرة في الجامعة اللّبنانيّة_كلّيّة التّربية، حائزة دكتوراه في التّاريخ الحديث. لها منشورات عديدة في مجلّة المشرق الرّقميّة، وفي دوريّات ثقافيّة أخرى. samikais@free.fr

**  باحث مساعِد في المركز العربيّ للأبحاث بالرّباط- المغرب. حاصل على ماستر في العلاقات الدّوليّة، وإجازة في العلوم السّياسيّة في كلّيّة الحكامة، والعلوم الاقتصاديّة والاجتماعيّة – جامعة محمّد السّادس متعدّدة التّخصّصات التّقنيّة - المغرب. من منشوراته: "المسألة الطّائفيّة في منطقة الشّرق الأوسط: لبنان والعراق أنموذجًا". Adnane.HRIOUA@um6p.ma


ثبت المصادر والمراجع

1. العروي، عبد الله. مفهوم الدّولة. المركز الثّقافي العربيّ، 2011، 240 صفحة.

2. الياس، أمين. علمانيّة من عندنا. بيروت: دار سائر المشرق، 2017.

3. بشارة، عزمي.الطّائفة، الطّائفيّة، الطّوائف المتخيّلة. ط.1. الدّوحة : المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، 2018، 928 صفحة.

4. شبيب، كاظم. المسألة الطّائفيّة تعدّد الهويّات في الدّولة الواحدة.ط.1. بيروت: دار التّنوير للطّباعة والنّشر والتّوزيع. 2011، 490 صفحة.

5. صالح، هيثم فرحان. إشكاليّة الدّولة في العالم العربيّ وتحوّل السّلطة على أبواب الألفيّة الثّالثة. ط.1. الدّوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، 2020، 448 صفحة.

6. غليون، برهان. المسألة الطّائفيّة ومشكلة الأقليّات. ط.5. الدّوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات. 2012، 176 صفحة.

مواقع رقميّة

1. "هل هو إسلاميّ أم إسلامويّ؟" معهد واشنطن لسياسة الشّرق الأدنى، 22 تشرين الأول/أكتوبر 2010، متاح على الرّابط الآتي:

 https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/is-it-islamic-or-islamist 

2. أنس الطّريقيّ. في مفهوم الدّولة. مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، 23 أيّار 2020. متاح على الرّابط الآتي:https://bit.ly/31ZIMKS

3. اليوم السّابع، "برلمانية تونسيّة: نوّاب النّهضة يتنقّلون بين السّجون للتّواصل مع إرهابيّين"، متاح على الرّابط الآتي: https://bit.ly/3fkmHdJ

4. عبد الرّحيم العسري، هسبريس، "بنكيران : أرفض الملكيّة البرلمانيّة.. و"اليسار المتطرّف" يهدّد الدّولة". متاح على الرّابط:https://bit.ly/3xrqqQG

5. عرابي عبد الحيّ عرابي. قراءة تحليليّةٌ لمفهوم "ما بعد الإسلامويّة" في أطروحة "آصف بيات". جسور للدّراسات. يوليو/تمّوز 2018. متاح على الرّابط الآتي: https://bit.ly/3D4KycE

6. Définition de laïcité. Centre National des Ressources Textuelles et Lexicales Disponible sur: https://bit.ly/3FRYDfb



[1]   أيديولوجيا تعتبر أنّ الإسلام هو نظام سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ (نظام حكم) يؤسّس للدّولة. اُنظر: عرابي عبد الحيّ عرابي، قراءة تحليليّةٌ لمفهوم "ما بعد الإسلامويّة" في أطروحة "آصف بيات"، جسور للدّراسات، يوليو/تمّوز 2018. متاح على الرّابط الآتي: https://bit.ly/3D4KycE

[2]   تقوم العلمانيّة في المجال السّياسيّ على فصل السّلطة الدّينيّة عن السّلطة السّياسيّة، بحيث يكون لكلّ من السّلطتين مجالها الخاصّ بها.

Voir: Définition de laïcité. Centre National des Ressources Textuelles et Lexicales. Disponible sur: https://bit.ly/3FRYDfb

[3]   اُنظر: أنس الطّريقيّ، في مفهوم الدّولة، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، 23 أيّار 2020. متاح على الرّابط الآتي:

https://bit.ly/31ZIMKS

[4]   عبد الرّحيم العسري، هسبريس، "بنكيران: أرفض الملكيّة البرلمانيّة.. و"اليسار المتطرّف" يهدّد الدّولة". متاح على الرّابط:
https://bit.ly/3xrqqQG

[5]    "فبراير تيفي | عصيد: بنكيران سياسيّ فاشل و"حلايقي".. والمساجد تخلق التّخلّف". متاح على الرّابط:
https://www.youtube.com/watch?v=lVssFIs35Nk&t=1s

[6]   اليوم السّابع، "برلمانية تونسيّة: نوّاب النّهضة يتنقّلون بين السّجون للتّواصل مع إرهابيّين"، متاح على الرّابط:

https://bit.ly/3fkmHdJ

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق