السّلام العالميّ والرّوحانيّة الإغناطيّة
القصد الإغناطيّ
قبل أن يؤسّس القدّيس إغناطيوس ورفاقه الرّهبانيّة اليسوعيّة في سنة ١٥٤٠، كانت رغبتهم تقوم على ما أسموه "مساعدة النّفوس"، ويقصدون بذلك تحفيز الحياة الرّوحيّة لدى النّاس أجمعين. نشأت هذه الرّغبة من اختبار الرّياضات الرّوحيّة الّتي وضعها القدّيس إغناطيوس منذ اهتدائه في سنة ١٥٢١ وطوّرها على مرّ السّنين. في الرّياضات الرّوحيّة تلك، يتذوّق المُريد عذوبة الحبّ الإلهيّ الّذي يقود إلى المصالحة من جهة ومرارة الأهواء الّتي تؤدّي إلى العنف من جهة ثانية. وبفضل التّذوّق هذا يتدرّب المُريد على اختيار الأوّل ونبذ الثّاني وصولًا إلى التّماهي مع الرّغبة الإلهيّة في خلاص كلّ إنسان. وعليه، فالخبرة الرّوحيّة، رغم كونها شخصيّة وفردانيّة إلى أقصى حدّ، إلّا أنّها تبني لصداقة اجتماعيّة أصيلة تستند إلى الدّعوة الإلهيّة لبناء المجتمع البشريّ بصورة "ملكوت الله".
في البداية، كان قصد إغناطيوس ورفاقه أن يكرّسوا حياتهم للعيش في أرض فلسطين، حيث عاش المسيح، واهبين ذواتهم لمساعدة النّفوس. غير أنّ تعذّر السّفر إلى الأراضي المقدّسة دفعهم لوضع أنفسهم بتصرّف بابا روما، بصفته "نائب المسيح على الأرض"، لكي يرسلهم حيثما يرى الحاجة أشدّ إلحاحًا. هكذا نشأت الرّهبانيّة اليسوعيّة ونشأت في إثرها جماعات مختلفة، رهبانيّة أو غير رهبانيّة، تحيا بروحانيّة الرّياضات الرّوحيّة، وشقّت هذه الرّياضات طريقها إلى مؤمنين من طوائف غير كاثوليكيّة، بل وغير مسيحيّة، حتّى دخلت في عالم الأعمال، وألهمت أحيانًا مسارًا روحيًّا خارجًا عن أيّ دين.
ثوابت في الرّوحانيّة الإغناطيّة
ما يجعل من روحانيّة القدّيس إغناطيوس طريقًا يخدم قضيّة السّلام العالميّ هو مجموعة من الثّوابت الّتي تستند إليها.
١. الاختبار التّأسيسيّ في الرّياضات الرّوحيّة هو أنّ الله الّذي يعمل في قلبي ليقودني إلى المصالحة هو نفسه الّذي يعمل في العالم كلّه ليتمّم المصالحة الشّاملة. لهذا فالاختبار الرّوحيّ يحمل في طبيعته طابع الشّموليّة. على ألّا تكون الشّموليّة هذه إمبرياليّة أو توتاليتاريّة. لأنّه إن طلب المصالحة، فهو يطلبها دائمًا في إطار الحرّيّة. من يُلقي الرّياضات على غيره عليه أن يتجنّب بعناية أن يُلقي أفكاره في ذهن مَن يتلقّى الرّياضات، لأنّ الله وحده له أن يدعو الإنسان، أيّ إنسان، بحسب لغته الخاصّة وعالمه الخاصّ.
٢. يقود الاختبار الرّوحيّ الإغناطيّ مُريده إلى أن "يجد الله في كلّ شيء"، أي أنّ الاختبار الرّوحيّ لا يقتصر على المجال الدّينيّ البحت، بل يجد العمل الإلهيّ الهادف إلى المصالحة في كلّ آليّات الخليقة، الطّبيعيّة والتّاريخيّة. من هنا الاحترام الإغناطيّ الشّديد خصوصيّة الخليقة، فلا يحبسها في خطاب سابق عليها، سوى أنّها مجال عمل الله، دائمًا بحسب قوانينها الخاصّة.
٣. حيثما مورست الحرّيّة البشريّة، لها أن تسير باتّجاه العمل الخالق أو باتّجاهٍ مغايرٍ له، لهذا فمجال الصّراع الرّوحيّ بين المشيئة الإلهيّة وبين آليّات الهلاك هو الحرّيّة البشريّة، أيًّا كانت ظروفها. تقوم مساعدة النّفوس على اكتشاف الصّراع الرّوحيّ هذا والانخراط فيه إلى جانب العمل الإلهيّ.
السّلام مسألة روحيّة
السّلام هو أفق الخير العامّ، ومطمح العقد السّياسيّ بين البشر. ومع أنّه ثابت أنتروبولوجيّ لا مجال للتّنصّل منه، إلّا أنّه لا يتحقّق بذاته، لأنّ ما يعيقه هو اغتراب الإنسان عن ذاته. هذا الاغتراب، يسمّيه التّقليد المسيحيّ الخطيئة، وهو ما يطلب المصالحة فينا. لذا، مع أنّ مطلب السّلام متجذّر فينا، إلّا أنّه لا ينكشف تلقائيًّا، ولا ينمو إلى التّحقّق بذاته. لا يتحقّق السّلام بالاستبداد الّذي يقوم على إخضاع الخليقة لما لا يوافق طبيعتها. ولا يستطيع إيقاف دوّامة العنف من دون اللّجوء إلى ديناميّة كبش المحرقة، حيث تتمّ المصالحة على حساب ضحيّة غير متصالحة. ولا يتحقّق بنكران الجذور، تلك نفسها الّتي عنها ينشأ الاختلاف والخلاف، ولكن من دونها تندثر الحيويّة. السّلام هو التّحدّي الملقى على عاتق البشريّة والّذي يؤسّس لمسؤوليّتنا المشتركة في بناء رجاءٍ لكوكبنا. تحمل الرّوحانيّة الإغناطيّة ذلك التّحدّي على محمل الجدّ، وتكشف كيف أنّ جذور السّلام العالميّ ضاربة في الاختبار الرّوحيّ الفرديّ، وكيف أنّ الاختبار الرّوحيّ هذا يصبّ في رجاء السّلام العالميّ كما تصبّ الينابيع في البحار.
_____________________________________________________
* مدير عام دار المشرق. درس الفلسفة واللّاهوت في فرنسا وألمانيا. حاز شهادة الدّكتوراه في العلوم الدّينيّة من جامعة القدّيس يوسف في بيروت. يُلقي الرّياضات الرّوحيّة بمختلف أنواعها، ويهتمّ بالتّنشئة الرّهبانيّة.
تعليقات 0 تعليق