حرّيّة الإنسان أمام الله مريم العذراء نموذجًا
قاربت السّنة الإغناطيّة على ختامها. بين ٢١ أيّار/مايو ٢٠٢١، الذكرى المئويّة الخامسة لإصابة إنيغو دي لويولا الّتي أودت به إلى اختبار روحيّ استمرّ يتكثّف حتّى أسّس الرّهبانيّة اليسوعيّة، مرورًا بالذّكرى المئويّة الرّابعة لإعلان قداسة إغناطيوس (إنيغو) في ١٢ آذار/مارس ٢٠٢٢، حتّى عيد القدّيس في ٣١ تمّوز/يوليو ٢٠٢٢، أقامت الرّهبانيّة اليسوعيّة سنة يوبيل بعنوان "رؤية كلّ شيء جديدًا في المسيح"، وهي عبارة وَصف بها إغناطيوس حالته بعد اهتدائه، وتعني أنّ الاختبار الرّوحيّ الّذي عبَر به، ونما فيه، مكّنه من قراءة الدّنيا وأحداثها بطريقة جديدة، تفتحها على أفق العمل الإلهيّ الّذي لا يتوقّف عن خلق العالم بأن يدعو الحرّيّة البشريّة إلى ملء المشاركة في تحويل العالم إلى ملكوت الله، أي إلى عالم متصالح يسوده السّلام والأخوّة.
أن يستدعي الاختبار الرّوحيّ الحرّيّة البشريّة قد يتضارب مع مفاهيم موروثة عن الدّين. لأنّه يبدو لنا أنّ الخضوع أكثر من الحرّيّة هو ما يحفّزه التّديّن في النّاس. وفي التّقليد المسيحيّ، تظهر العذراء مريم مثالًا لخضوع تَطهّر من كلّ مقاومة، وقدّم الحرّيّة ذبيحة مقبولة على مذبح الطّاعة. ومع ذلك فإنّ كلمات الوحي نفسها تُظهر أنّ الحرّيّة البشريّة هي مطلب الله أكثر من المحرقات والذّبائح. لأنّ الحرّيّة هي القدرة على الحبّ. لا يستطيع المرء أن يحبّ مكرهًا. ومن دون الحبّ لا قيمة للخضوع أو التّواضع أو أيٍّ من الفضائل الأخرى.
في كتاب الرّياضات الرّوحيّة، يُعيد إغناطيوس كتابة رواية بشارة الملاك للعذراء (إنجيل لوقا، الفصل الأوّل) بطريقة تُظهر معنى ذلك الاختبار الرّوحيّ الّذي عبر في مريم، مُخرجًا إيّاه من ثنائيّة القصد الإلهيّ وخضوع الإنسان. يبدأ إغناطيوس مشاهدة السّرّ من منطلق عالٍ جدًّا، فهو يتخيّل الله، الأب والابن والرّوح القدس، ينظر إلى العالم بسعته وتنوّعه. وإذ يرى النّاس على اختلاف أوضاعهم يسيئون استخدام حرّيّتهم ويقودون العالم الّذي خلقه إلى الهلاك يقرّر أن يرسل الابن ليكون واحدًا من النّاس. ليس خلاص الحرّيّة البشريّة ممكنًا من الدّاخل، فالإنسان لا يخلّص نفسه، ويعوزه الفعل الإلهيّ ليخلّص. ولكنّ الفعل الإلهيّ لا يمكنه أن يخلّص حرّيّة الإنسان بإفنائها، ولذلك لا يأتي الخلاص من الخارج تمامًا، بل بحضور الله في ما بيننا، حرّيّة بشريّة مثل حرّيّتنا. هذا مفهوم التّجسّد الإلهيّ.
في النّظرة الإلهيّة إلى العالم رحمة عظيمة ورغبة في الخلاص تحاكي الرّغبة الإلهيّة في الخلق. وخلق الإنسان حرًّا أمام الله هو مشروع الخلق الّذي يتوقّف نجاحه وإخفاقه على قدرة الحرّيّة البشريّة على أن تجد في نفسها الرّغبة الإلهيّة ذاتها الّتي تشاء لها الخلاص. هذه الحرّيّة البشريّة القادرة على محاكاة الرّغبة الإلهيّة هي حرّيّة ابن الله، الّذي يحمل الحبّ الإلهيّ في قلب بشريّ، فيفتح للبشر طريق اكتمالهم في الحرّيّة.
نتيجة القرار الإلهيّ بتحقيق التّجسّد نرى الملاك جبرائيل مُرسلًا إلى عذراء النّاصرة، كاشفًا لها عن القصد الإلهيّ. في خضمّ العالم المتّجه إلى الهلاك في غفلة النّاس عن مسؤوليّة حرّيّتهم، تظهر تلك الشّابّة المؤمنة الّتي تنتظر رجاء الخلاص في موقف مغاير. قدرتها على الرّهان على القدرة الإلهيّة تجعلها لا تيأس من حال العالم. انتظار الرّبّ هو دعوة شعب الله (راجع المزمور ١٣٠) الّذي نشأ من صلب إبراهيم، وتمرّس بالاختبار الإلهيّ عن طريق الآباء والأنبياء. ومريم تُظهر هذه الدّعوة بأبهى إشراقها. فهي ستحبل بالّذي هو كلمة الله الّتي ما انفكّت تصغي إليها وترجوها، وها هي تصير لها هيكلًا وجسدًا وبيتًا.
ليس خضوع مريم هو ما يؤهّلها لقبول القصد الإلهيّ، بل ملاقاة حرّيّتها مع الحرّيّة الإلهيّة. فمريم هي المكان البشريّ الأقرب إلى القصد الإلهيّ، الّذي يكتمل في المسيح، أعني به الحرّيّة البشريّة القادرة على الحبّ الإلهيّ. وتظهر حرّيّتها في ثلاث إشارات.
أولاها كلمة "هاءنذا" الّتي به تجيب الملاك. لهذه الكلمة قصّة في الكتاب، فهي الكلمة الّتي نقصت في آدم حين ناداه الله في الجنّة، وهي الكلمة الّتي أجاب بها أشعيا الله حين سأل: "من أرسل؟" (أشعيا ٦) وهي الكلمة الّتي يجعلها المزمور ٤٠ (وفي إثره الرّسالة إلى العبرانيّين) غاية العبادة حين يقول: "ذبيحة وتقدمة لم تشأ، ولكنّك فتحت أذنيّ (...) فقلتُ هاءنذا آتٍ، (...) هواي أن أعمل مشيئتك يا الله، شريعتك في صميم أحشائي." (مزمور ٤٠: ٧-٩). على نقيض الشّريعة الخارجيّة الّتي تتطلّب الخضوع، الشّريعة "في صميم الأحشاء" تولّد حضورًا: "هاءنذا" من دون إكراه.
ثاني إشارات الحرّيّة هو الامتنان الّذي ملأ قلب مريم بعد "هاءنذا". فقد مضت مسرعة إلى بيت نسيبتها إليصابات في مشهد يحضّر لأفراح قيامة الرّبّ في نهاية الإنجيل، وأمام تلك الأخيرة تُنشد نشيد الامتنان: تعظّم نفسي الرّبّ (لوقا ١). الامتنان هو اختبار مُسبق للمصالحة الموعودة في القصد الإلهيّ، وهو لا يُفتعل ولا ينتج من الإرادة. بل الامتنان "يحصل"، ويشير إلى انطلاقة الحرّيّة.
ثالث إشارات الحرّيّة في قصّة مريم هو فهمها القصد الإلهيّ باختلافه الجذريّ عن مقاصد النّاس. في نشيدها أمام إليصابات تقول: "حطّ الأقوياء عن العروش ورفع المتواضعين. أشبع الجياع خيرًا والأغنياء أرسلهم فارغين." إنّ القدرة الباطنيّة على فهم العمل الإلهيّ على أنّه يحوّل العالم ويتحدّى الأنظمة القائمة يأتي من نفس متحرّرة. من المهمّ التّنبّه هنا إلى أن ليست كلّ مناهضة لنظام قائم علامة على حرّيّة متحرّرة، فالأنظمة تتبدّل من طبعها، ولكن أن تكون الحرّيّة البشريّة – مع كلّ صراعها ضدّ أوهامها – ركنًا أساسيًّا في نظام الحكم، هذا ما يجعل تحوّل مجتمعاتنا ناتجًا من الاختبار الرّوحيّ. لأنّ "حيث روح الرّبّ، هناك تكون الحرّيّة" (٢ كورنتس ٣: ١٧).
غاية الرّهبانيّة اليسوعيّة كما حدّدها مؤسّسوها هي "مساعدة النّفوس"، أي تحفيز الاختبار الرّوحيّ الّذي يتمّم المصالحة وبالتّالي الخلاص. هذا الاختبار يستدعي حرّيّة الإنسان، لأن لا مصالحة بالإكراه. والمسيرة النّموذجيّة لهذا الاختبار كما نقرأه في حياة مريم العذراء يدعونا جميعًا إلى احترام الحرّيّة، الّتي لنا والّتي لغيرنا، وإلى نبذ كلّ مفهوم للاختبار الرّوحيّ لا يقيم وزنًا لقيمة الحرّيّة.
___________________________________
الأب داني يونس اليسوعيّ: مدير عام دار المشرق. درس الفلسفة واللّاهوت في فرنسا وألمانيا. حاز شهادة الدّكتوراه في العلوم الدّينيّة من جامعة القدّيس يوسف في بيروت. يُلقي الرّياضات الرّوحيّة بمختلف أنواعها، ويهتمّ بالتّنشئة الرّهبانيّة.
تعليقات 0 تعليق