المطران جوزيف دوريه - يسوع بمتناول الجميع
تتمحور الحياةُ المسيحيّة على شخص يسوع المسيح، فهو وحدَه وحيُ الله. هو المُرسَل والرّسالة في آنٍ واحد، الطّريق والوِجهة النّهائيّة، ولذلك يقصد المسيحيّون دومًا إلى التّبحّر في معرفته، وهذه هي غاية المطران جوزيف دوريه في كتابِه يسوع بمتناول الجميع.
متعدِّد النِّعَم، سيمَ كاهنًا في العام 1961. تخصّص في تنشئة الكهنة والعلوم اللّاهوتيّة. في انطلاقته، ترأّس مدرسةً إكليريكيّة ودَرَّسَ مادّة الكريستولوجيا الّتي يتطلّع إليها آلاف الطّلّاب. عُيِّن عميدًا لكلّيّة اللّاهوت في معهد باريس الكاثوليكيّ وعضوًا في اللّجنة اللّاهوتيّة العالميّة، ثمّ رئيس أساقفة على مدينة ستراسبورغ. وقد اختار له شعارًا يلخِّص مسيرته ويُعلن عن مُرادِه: "من أجل يسوع". أمّا أشهر ما قام به فتَرَؤُّسُه المجموعةَ المرموقة يسوع ويسوع المسيح الّتي بلغت إصداراتها بين العامَين 1976 و2011 مئة مؤلَّف عن يسوع. يذكر اللّاهوتيّون اسمَه في طليعة الباحثين في شخص يسوع المسيح.
في كتابهِ الأوّل المُعرَّب، لا يخاطبُ المطرانُ دوريه الخبراءَ في المجال اللّاهوتيّ، بل يحاور كلّ إنسانٍ اشتهى معرفةَ يسوع، ما يكشف عن مضمون العنوان يسوع بمتناول الجميع. وللانتهاء إلى الهدف، اعتمد منهجيّة السّؤال والجواب، فتمكّن، في بادئ الأمر، من مقاربة المسائل من زوايا مختلفة، والارتقاء التّدريجيّ في المعالَجة، ثمّ من إضفاء البُعد الودّيّ على النّصّ والانصراف عن السّلوك الدّفاعيّ والجدليّ العدائيّ.
قسَّم الكاتب إلى مراحل أربع: في المرحلة الأوّلى قدّم التّاريخ، أي مراحل البحث التّاريخيّ عن حياة يسوع والمعايير المُعتمَدة والنّتائج المُدرَكة، كما تناول مسألة انتماء يسوع إلى المجتمع اليهوديّ. في المرحلة الثّانية، توسّع في رسالة يسوع، الّذي "سارَ في كُلِّ مكانٍ يَعمَلُ الخَيرَ" (أع 10، 38)، واعظًا عن مجيء ملكوت الله، رابطًا بين قضيّة الله وقضيّة الإنسان، موَجِّهًا خطابَه إلى الجميع، مستبعدًا السّعي وراء الشّهرة الشّعبيّة، متصرِّفًا بكثير من الرّقّة والاحترام تجاه الآخرين، وجاعلًا "سلوكيّاته المذهلة" متآلفة مع تعاليمه (ص. 59). في المرحلة الثّالثة، تناول الكاتب هويّة يسوع الّذي لا يمتثل التّصنيفات المُعتادة، وقد وقع معاصروه في الحيرة من أقواله وتصرّفاته كأنْ يغفر الخطايا ويخاطب اللهَ قائلًا له "أبًا". أمّا تلاميذه فآمنوا به في إثر القيامة واعترفوا به مسيحًا وربًّا وابن الله. في المرحلة الرّابعة، وعنوانُها الأجيال القادمة، سرد إيمانَ الكنيسة، مؤكِّدًا أنّها ترتبط بيسوع وتشهد له، لكنّها لا تأخذ مكانَه، فهو "الوحيد في البشريّة إلهٌ وإنسانٌ على حدّ سواء" (ص. 112). والوسائل الّتي سلكها المسيحيّون للوصول إليه ثلاثٌ أساسيّة: قراءة الأناجيل الّتي تنقل اختبار شهود العيان، وعيش القيم الأخلاقيّة الّتي نادى بها المسيح، والاحتفال بالأسرار للالتقاء به كائنًا حيًّا. ويؤكِّد دوريه أنّ "قيم المسيح" تبقى صالحة للجميع ومعيارًا للحياة النّاجحة، ومنها التّحسّس مع الفقير والمريض والسّجين والمتغرِّب، ومحبّة العدوِّ، ومغفرة الإساءة، والسّعادة الحقّة في العطاء وبذل الذّات.
لا تكمن أهميّة هذا الكتاب في أنّه الأوّل في اللّغة العربيّة للمطران جوزيف دوريه وحسب، بل في أنّ هذا الأخير، "بصفته لاهوتيًّا ومؤمنًا وراعيًا" (ص. 145)، يخاطب سائرَ النّاس، مسيحيّين وغير مسيحيّين، مؤمنين وغير مؤمنين، بلغةٍ بسيطة وأفكارٍ عميقة، داعيًا إيّاهم إلى التّعرّف إلى هويّة يسوع المسيح، ومن خلاله إلى التّفكير بأبعاد وجودهم في مجتمعٍ استهلاكيّ، تناقصت فيه القناعات الدّينيّة، وزاد فيه عدد الّذين يطلبون الغاية من الحياة، شاركنا دوريه قناعته: يسوع هو الحقّ والسّعادة. ولا بدّ من توجيه الشّكر إلى المطران مارون ناصر الجميّل الّذي عرّب النّصَّ في ساعات السَّفَر في القطار. وأختمُ باقتباس نصٍّ معبّر يكشف عن المتعة في قراءة الكتاب: "يظهر يسوع كرجل صالح وحازم، مصمِّم وحسَّاس، وكمربٍّ وقائد للنّاس، يرغب، بالتّأكيد، بتنشئة مَن يتبعونه، وأيضًا كحريصٍ دومًا على أن يدعو مَن يجذبهم إليه إلى الحرّيّة. يظهر كرجل قادر على أن يخاطر بحياته وأن يهبها، مقتنعًا بأنّها الطّريقة الحسنة لجعلها حياةً حيّة حقًّا" (ص. 68).
المطران جوزيف دوريخ
يسوع بمتناول الجميع
ط.1، 156 ص.، بيروت: دار المشرق، 2023
(ISBN: 978-2-7214-5642-7)
الأب غي سركيس: حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ متفرّغ في جامعة القدّيس يوسف، وأستاذ محاضر في جامعة الحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسّلام...لمن؟، أؤمن ...وأعترف، وقراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث، والنّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة).
تعليقات 0 تعليق