غزَّة: وصيَّة إلى الأجيال المقبلة في الشرق والغرب
غزَّة تعلِّمنا أنَّ الكرامة أثمن من الحياة نفسها. ورغم الحصار الطويل والقصف المتكرِّر، ظلَّ أهلها متمسِّكين بحقِّهم في الحرِّيَّة والوجود. هذه الروح ليست دعوة إلى العنف، بل إلى الثبات على الحقِّ وعدم الرضوخ للظلم مهما طال. إنَّ دروس غزَّة تقول للأجيال: إنَّ الإنسان يمكن أن يُهزم جسدًا، لكنَّه لا يُهزم روحًا إذا تشبَّث بكرامته.
على شباب الغرب أن يدركوا أنَّ القيم التي يرفعونها من عدالةٍ وحقوقِ إنسان وحرِّيَّة، تُختبر هناك في غزَّة. فليست هذه المبادئ مجرَّد شعارات تُرفع في الميادين أو الجامعات، بل امتحان يوميٌّ في أرض محاصَرة. وعلى شباب الشرق أن يتعلَّموا أنَّ الانتماء لا يكتمل إلَّا بالتضامن مع المظلوم، وأنَّ فلسطين ليست قضيَّة بعيدة، بل مرآة لهويَّتنا وكرامتنا. غزَّة هي ميزان إنسانيَّتنا جميعًا.
رغم القصف والركام، ظلَّ أطفال غزَّة يرسمون شموسًا وبحارًا وطيورًا ملوَّنة. هذه الرسومات تقول للأجيال المقبلة: إنَّ الأمل لا يُمحى، وإنَّ المستقبل يُبنى حتَّى من تحت الأنقاض، متى وُجد الإيمان بالإنسان وبالعدل. وصيَّة غزَّة للأجيال هي أن يحملوا الحلم وألَّا يسمحوا للظلام أن يُطفئ نور الرجاء.
وقد تجسَّد هذا المعنى بقوَّة في المعرض الذي يقام في باريس عن غزَّة منذ نيسان 2025 وحتَّى تشرين الثاني 2025 في معهد العالم العربيّ. لم يدخل الزوَّار قاعة فنيَّة عاديَّة، بل دخلوا في قلب الذاكرة. الصور المعلَّقة لم تكن ألوانًا وخطوطًا، بل كانت وجوهًا وأحلامًا مكسورة. لوحات الفنَّانين صارت شهادات حيَّة، وكلُّ شهادة كانت صرخة في وجه النسيان. هكذا فهمنا أنَّ الفنَّ في زمن الحرب ليس ترفًا، بل هو وسيلة للنجاة ولحفظ الحقيقة من الطمس. القطع الأثريَّة التي رأيتها لم تكن مجرَّد متحف بل كانت جزءًا من التاريخ.
لقد كشف المعرض أنَّ غزَّة ليست ساحة للألم فحسب، بل هي أيضًا منجم للمعنى. فالفنَّان الذي يرسم بيتًا مهدَّمًا ويضع في جدارِه نافذةً مشرَّعة على البحر، لا يوثِّق مأساة فحسب، بل يقول: «رغم الركام هناك أفق، ورغم الجدار هناك حياة تنتظر». هذه الرسالة لا بدَّ من أن تصل إلى الأجيال المقبلة، لتدرك أنَّ الفنَّ يمكن أن يكون جسرًا بين الجرح والأمل.
كما علَّمنا المعرض أنَّ غزَّة مرآة للعالم: مَن ينظر إليها يرى صورته في امتحان القِيَم. هل نقف متفرِّجين أمام الظلم، أم نصبح شهودًا للحقّ؟ من هنا، يصبح الفنُّ صوت الضمير العالميّ. وصيَّة المعرض للأجيال القادمة أنَّ الإصغاء إلى لغة الفنِّ ضروريٌّ، لأنَّها أحيانًا أصدق من كلِّ خطابات السياسة.
الدرس الأخير من غزَّة أنَّه لا يكفي أن نتفرَّج على المأساة من بعيد أو نكتفي بالتعاطف الصامت. المطلوب هو أن نقف مع المظلومين، أن نرفع الصوت حيث يُراد للصوت أن يُخنق، وأن نتعلَّم أنَّ قيمة الإنسان تُقاس بقدرته على الوقوف مع المستضعَفين.
غزَّة ليست مجرَّد مكان على الخريطة، بل هي وصيَّة حيَّة للأجيال المقبلة. وصيَّة بالذاكرة، بالكرامة، بالتضامن، بالأمل، وبالمسؤوليَّة الأخلاقيَّة. وما المعرض في باريس إلَّا شاهد إضافيٌّ على أنَّ غزَّة تتكلَّم بالفنِّ كما بالكلمة، بالصورة كما بالدمعة. إنَّها تنادي الشرق والغرب معًا: تعلَّموا من غزَّة أنَّ الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يعطي، ولا يُقاس بما يعيشه من راحة، بل بما يحتمله من أجل الحقيقة.
الأب سليم دكَّاش اليسوعيّ: رئيس تحرير مجلَّة المشرق الرّقميّة. رئيس جامعة القدِّيس يوسف في بيروت. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتِّحاد الدوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التربويَّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب - الفلسفة من جامعة بانتيون - السوربون 1 (1988). يدرِّس فلسفة الدين والحوار بين الأديان والروحانيَّة السريانيَّة في كلِّيَّة العلوم الدينيَّة في الجامعة اليسوعيَّة.
تعليقات 0 تعليق