الحالة الطّائفيّة تسير في الاتّجاه المعاكس لتأسيس الدّولة الحديثة

لوريم ايبسوم هو نموذج افتراضي يوضع في التصاميم لتعرض على العميل ليتصور طريقه وضع النصوص ؟

author_article_image

الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ

الحالة الطّائفيّة وتحدّي العبور إلى المواطنيّة والدّولة

مقدّمة

يبقى السّعي إلى فهم الحالة الطّائفيّة في لبنان من كلّ جوانبها، فهمًا علميًّا وموضوعيًّا، مسألةً لا غنى عنها في أيّ بحثٍ هدفه الإلمامُ بالعوائق الّتي تحول دون العبور إلى المواطنيّة والدّولة. ذلك أنّ الحالة الطّائفيّة متأصّلة في أذهان اللّبنانيّين ومجتمعهم، ومن الجليّ أنّها العامل الرّئيسيّ في وهن الدّولة وغموض الانتماء إلى الوطن، من دون التّقليل، بالطّبع، من دور العوامل الخارجيّة في هذا الشّأن. غير أنّ هدف هذه المقالة إبراز حقيقة أنّ قيام دولة حديثة في لبنان، وتأصّلَ مواطنيّة صادقة وفاعلة يفترضان تحوّلاً ثقافيًّا وسياسيًّا يعاكس مسار الأمور السّائد. وبكلام آخر، إنّ الادّعاء بإمكان النّهوض بالدّولة وتطويرها في ظلّ هيمنة الحالة الطّائفيّة الّتي تكتسب بُعدًا دستوريًّا وميثاقيًّا، مجرّد وهم. وإحدى المداخل الّتي من شأنها أن تبرهن عن صحّة هذا الافتراض هي بنية الهويّة الطّائفيّة الجماعيّة وأثرها في بنية الفرد على نحوٍ يعاكس تمامًا ما تفترضه أسس الهويّة الوطنيّة المعاصرة. فالهويّة الوطنيّة شعور شخصيّ بالانتماء إلى أمّة ينمو في داخل الفرد، ويتألَّف من رموزٍ وقيمٍ وعادات وخصائص وروايات وطنيّة مشتركة، تحفظها الدّولة وتُطوّرها وتنقلُها إلى الأجيال بطرق تربويّة. وهذا ما سيتمّ التّطرّق إليه في المقاطع اللّاحقة.

أوَّلًا - وعي الهويّة الفرديّة

من المسلّم به أنّ وعي الفرد هويّته، والهويّة، كما سلف القول، هي قبل كلّ شيء شعور على صلة وطيدة بمجموعة عناصر تكوِّن هويّات جاهزة، يُصادق عليها الفرد تلقائيًّا إذ ينشأ عليها. فانخراط الفرد التّدريجيّ في مجتمعه، بدءًا بالعائلة، ومن ثمّ في دائرة اجتماعيّة أوسع تشمل المدرسة والأصدقاء ودُور العبادة والنّوادي الرّياضيّة والثّقافيّة وغيرها، يولِّد فيه تفاعلًا بين مجموعة عوامل نفسيّة وذهنيّة واجتماعيّة توعّيه على الشّعور بهويّته الشّخصيّة، وتربط استمراريّتها إلى حدّ بعيد بالنّماذج الّتي ينشأ عليها ضمن جماعته، والّتي يسعى ليتماثل معها، لا سيّما أنّ هذه النّماذج المتجسّدة بشخصيّات تكتسب مكانةً مميّزة في تراث الجماعة. وفي هذا الإطار، لا تقتصر تلك النّماذج على شخصيّات الماضي، بل تجد نوعًا من إحياء لها في شخصيّات الحاضر الّتي تُقدَّمَ، أو تُقَدِّم نفسَها، بصفتها أمينة لشخصيّات الماضي ورسالتها، أو استمراريّة لروح الجماعة وضمانة لها. فلا عجب، بالتّالي، أنّ يتركَ تطوّرُ وعي الفرد هويّته بارتباط مع جماعته هامشَ حريّة شخصيّة محدودًا؛ إذ ليس من السّهل على الفرد أن يختار ما يعاكس توجّهات الجماعة التّاريخيّة على مختلف الصّعد. بل ينتج ترابط عضويّ بين الهويّة الشّخصيّة والهويّة الجماعيّة، بحيث أنّ كلّ ما يُعلي من شأن الأُولَى يُعلي من شأن الثّانية، والعكس صحيح[1].

غير أنّ المميّز في الإطار الطّائفيّ، هو أنّ عامل الدِّين وما يحمله من طقوس ورموز دينيّة يتدخّل بشدّة في تكوين الهويّة الجماعيّة والفرديّة على السّواء، ويساهم مساهمةً فعّالة في تكوين سلوك اجتماعيّ مشترك إلى حدٍّ بعيد بين أفراد الجماعة الواحدة، يميّزها عن باقي الجماعات الطّائفيّة، مُضفيًا على دوره طابعًا قدسيًّا يجعل من فكرة المواطنيّة المعاصرة وفكرة الاندماج الوطنيّ، في ظلّ دولة تخدم الخير العامّ، شديدتَي الغموض، بل تراه يدفع باتّجاه تكوّن الجماعة الطّبيعيّ القائل بتفوّق الجماعة على باقي الجماعات، إن لجهة معرفتها الحقيقة الدّينيّة أو لجهة مآثرها التّاريخيّة والثّقافيّة. ويؤدّي السّعي المتواصل للحفاظ على هويّة المجموعة على هذا النّحو إلى نشوء منافسة حتميّة مع الجماعات الأخرى[2].


ثانيًا - دور البُعد الدّينيّ الهويّاتيّ

يبقى دور رجال الدِّين، أي القائمين على ضمانة سلامة العقيدة وحسن تطبيق الأحكام والاحتفال بالطّقوس، مركزيًّا في نسج هويّة الفرد والجماعة، وتأمين استمراريّتها وتماسكها. ولكنّ دورهم هذا لا يقتصر على النّاحية الدّينيّة أو القانونيّة، كما ينصّ عليها قانون الأحوال الشّخصيّة فحسب، بل يساهم في خلق تداخل مجتمعيّ بين ما هو اجتماعيّ-سياسيّ وما هو طائفيّ أو جمعويّ. ويبرز هذا الواقع بوجه خاصّ مع تحوّل المنابر الدّينيّة في أثناء الاحتفالات الطّقسيّة أو المناسبات الدّينيّة إلى منابر سياسيّة، فتُسقَط الأزمات أو الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة الرّاهنة على عمليّة الاحتفال بالطّقوس وتفسير النّصوص المقدّسة. وبالتّالي، يصبح البُعد الدّينيّ متداخلًا، في ذهن الفرد ووعي الجماعة على السّواء، بالبُعد الاجتماعيّ-السياسيّ والبُعد الجمعويّ. فلا عجب أن يكون "المجتمع المدنيّ نفسَه مُبتلعًا من قبل المؤسّسة الدّينيّة، الّتي هي أيضًا تتماثل مع المجتمع المدنيّ. ويُنتجُ هذا التّرابطُ بين المجتمع المدنيّ والجماعة الدّينيّة تكوينًا اجتماعيًّا-ثقافيًّا متجانسًا وشديد التّماسك، يُقاوم مقاومة شديدة التّغيير ودخول عناصر متغايرة". وعلى المستوى الشّخصيّ، يعني هذا التّرابط أنّه لا يسع الفرد أن يصبح عضوًا في مجتمعه إلاّ إذا "التزم تجاهها التزامَ ولاءٍ هو، في الوقت نفسه، التزام مدنيّ ودينيّ، زمنيّ ولاهوتيّ، بصرف النّظر عن إيمانه وحياته الدّينيّة الشّخصيّة"[3]. وفي الواقع، "إنّ ممارسة بعضهم الشّعائر الدّينيّة، وازدياد عدد الذين يكيّفون سلوكهم وفقًا لتلك الشّعائر - وهذه ظاهرة نلاحظها بوجه خاصّ في وقت التّوتّر والأزمات بين الطّوائف - ليسا بالضّرورة علامة تقوى. فإجمالًا لا دخل للإيمان بذلك. فمن طريق ممارسة الشّعائر والاحتفالات الدّينيّة لا يتمّ البحث حقيقةً إلّا عن تثبيت الهويّة الطّائفيّة الشّخصيّة. والأمر يتّصل بشكل من الأشكال الّتي تظهر من خلالها النّرجسيّة الجماعيّة، في حين أنّ الدّيناميّة الجماعيّة تنتج بالأحرى من الخليط النّفسيّ والاجتماعيّ الذي هو العصبيّة بحسب نظريّة ابن خلدون"[4].

وعلى مستوى علائقيّ أوسع، يصبح الانتماء الطّائفيّ المنطلق الأساسيّ في العلاقات بأعضاء الطّوائف الأخرى. فإنّ وعي الخصوصيّة الاجتماعيّة – الثّقافيّة الطّائفيّة يتطوّر في الخبرة اليوميّة الّتي يعيشها أعضاء الطّائفة في ممارسة علاقاتهم بجيرانهم من الطّوائف الأخرى. ويُنتج هذا التّداخل المذكور تكوينًا اجتماعيًّا-سياسيًّا قدسيًّا معقّدًا وغامضًا، يقاوم كلّ محاولة فصل، ويرفض المسّ برموزه الدّينيّة بل وبمرجعيّاته الدّينيّة والسّياسيّة الّتي توظِّف هذا الوضع لتعزيز مكانتها بصفتها ضمانة استمراريّة الجماعة الطّائفيّة والحفاظ على حقوقها إزاء كلّ ما يهدّدها.


ثالثًا - تشخيص المجموعة

في ضوء ما تقدّم، يبرز عامل مهمّ جدًّا يميّز هويّة الجماعة الطّائفيّة وهويّة الفرد المنتمي إلى الجماعة على السّواء، ألا وهو تشخيص الجماعة، بمعنى أنّ مرجعيّاتها تجد الأرضيّة الملائمة لتقدّم نفسَها وكأنّها تجمع الجماعة بشخصها، فتراها تتكلّم باسم الجماعة كلّها، وتحدّد مصالحها وحقوقها وغاياتها من دون حاجة إلى العودة إلى قاعدتها الشّعبيّة. بل إنّ تشخيص المجموعة يؤْثِر تماثلها بالمرجعيّة كما يتماثل الفرد بالمجموعة؛ فهكذا تصبح "روح المجموعة" قائمة على تبعيّة أو إقطاعيّة. أمّا نتيجة هذه التّركيبة على المجتمع والدّولة فسلبيّة بامتياز. إذ تغيب إمكانيّة تكوين مرجعيّة الدّولة الحصريّة للفرد، وتغيب إمكانيّة تطوير خير عامّ قائم على تواصل الأفراد بين بعضهم بعضًا بحريّة وتفاعل مصالحهم، ويصبح التّواصل مع الآخرين، أقلّه في الشّؤون العامّة، محصورًا بالبُعد الطّائفيّ. وخلاصة القول إنّ العقد الاجتماعيّ بمفهومه المعاصر وآليّاته الّتي تؤسِّس لدولة حديثة، ليس لها دور فاعل في المجتمع، ولا يمكن "روح الجماعة" السّائدة أن تتوافق معها.

وفي الواقع، إنّ ما يميّز تلك الرّوح، عندما يأتي الكلام على المصالح الخاصّة والعامّة، بُعدها المعنويّ وليس الموضوعيّ، بالنّظر إلى ارتباطه بالخلفيّة الدّينيّة مع كلّ مكوّناتها. فتلك الخلفيّة لا تنطلق ممّا هو خير فعليّ لأتباعها بصفتهم أفرادًا – الأمر الذي يُحتّم مقاربة أفراد الجماعات الآخرين بطريقة مختلفة عن التّمايز والمنافسة والحذر- بل ما يؤلِّف إرثها وما ينطوي عليه من مفاهيم أخرويّة أو مقاصد إلهيّة تفترض وحدة جماعتها، وتماثلَ أفرادها مع عناصر تلك الوحدة. فتكون النّتيجة أنّ الفرد لا ينظر إلى مصالحه أو خيره الشّخصيّ وما يحتاج إليه ليحقّق ذلك، بل ينصرف إلى الاهتمام بهويّة الجماعة والحفاظ عليها والدّفاع عنها، على نحوٍ يتجاوز فيه ميوله الشّخصيّة وخياراته الّتي يمكن أن تمايزه عن باقي أفراد الجماعة. ويبقى الاتّصال مع الجماعات الطّائفيّة الأخرى الذي يمكن أن يتّخذ طابعًا عنيفًا أحيانًا أو مهادنة أو مساومة أو تفاهمًا، أساسيّ للإبقاء على تماسك المجموعة وإبراز مكانتها. وعندما تظهر عناصر التّشابه بين مختلف الجماعات لجهة بعض العادات والتّقاليد والقيم، فإنّ فهمها وعيشها لا يخرجان من الإطار الجماعيّ، أي لا تتحوّل عناصر التّشابه تلك إلى نقاط مشتركة تجمع أفرادًا، ذلك أنّ الرّغبة في التّمايز، والقصد به المحافظة على مسافة لا يمكن إلغاؤها في التّفاعل مع الجماعات الأخرى، يبقى شديدًا ويتغذّى باستمرار من الخطاب الدّينيّ والسّياسيّ، بل ومن المؤسّسات التّربويّة والاجتماعيّة الّتي ترفع لونها الطّائفيّ، وإن كانت خدماتها تطال أفرادًا من مختلف الجماعات.

الخاتمة

إنّ الكلام على بنيان مواطنيّة ودولة في ظلّ استمرار سيطرة الحالة الطّائفيّة مضيعة للوقت أو تضليل متعمّد. فتعريفات المواطنيّة والدّولة الحديثة تضع في الواجهة الفرد، وقد انعتق من كلّ انتماء يندرج ضمن انتماءات المجتمعات التّقليديّة وولاءاتها، والدّولة الّتي تنصرف إلى خدمة المصلحة العامّة والخير العامّ انطلاقًا من رؤية وطنيّة وبرامج علميّة برغماتيّة. فالحالة الطّائفيّة كما تمّ تحليلها في هذه المقالة تسير في الاتّجاه المعاكس تمامًا لاتّجاه الدّولة الحديثة. وبالتّالي، لا بدّ من السّعي لتنمية الثّقافة المعاكسة للثّقافة الطّائفيّة، بغية تقوية شعور بالانتماء إلى الدّولة والوطن على أساس فرديّ. وليس هذا السّعي مستحيلًا أو وهمًا، وإن كان صعبًا. فبوادره ظاهرة في المجتمع اللّبنانيّ، من جهة، بفضل الانفتاحِ الثّقافيّ والانتشار المستمرّ للثّقافة الدّيموقراطيّة وحقوق الإنسان؛ ومن جهة ثانية، تعبِ اللّبنانيّين من الحالة الطّائفيّة ويأسِهم من قدرتها على تأمين حياة كريمة لهم.

_____________________________________________________________

*   نائب رئيس جامعة القدّيس يوسف، وعميد كلّيّة العلوم الدّينيّة، ومدير معهد الآداب الشرقيّة في الجامعة نفسها. له عدد من المؤلّفات اللّاهوتيّة والسّياسيّة صادرة عن دار المشرق، منها "السّنون العجاف" 2018، و"مخاض الدّيمقراطيّة في لبنان والشّرق الأوسط" 2014، و"هويّة لبنان الوطنيّة، نشأتها وإشكاليّاتها الطّائفيّة" 2008.


ثبت المصادر والمراجع

• BENEDICTY Robert. Transfiguration sacrale de la société civile, coll. « Hommes et Sociétés du Proche-Orient ». Beyrouth: Université Saint-Joseph, Dar el-Machreq, 2001, pp.202-211.

• SALAM Nawaf. La condition libanaise. Communauté, citoyen, Etat. Beyrouth : Dar An-Nahar, 1998, pp. 26-27.

• TAJFEL H. 1981. Human Groups and social Categories. Cambridge : Cambridge University Press.

• VINSONNEAU Geneviève. L’identité culturelle. Paris : Armand Colin, 2002.



[1]   اُنظر على سبيل المثال:H. TAJFEL, Human Groups and social Categories (Cambridge: Cambridge University Press, 1981)

[2]   اُنظر على سبيل المثال: Geneviève VINSONNEAU, L’identité culturelle (Paris: Armand Colin. 2002).

[3]   BENEDICTY Robert, 2001, Transfiguration sacrale de la société civile, coll. «Hommes et Sociétés du Proche-Orient», Beyrouth: Université Saint-Joseph, Dar el-Machreq, pp. 202-211.

4     SALAM Nawaf, 1998, La condition libanaise. Communauté, citoyen, Etat, Beyrouth: Dar An-Nahar, pp. 26-27.

تحميل بصيغة PDF

تعليقات 0 تعليق

الأكثر قراءة

الذات والعهد ولبنان

دولة لبنان الكبير 1920 – 2021

الوجه المفقود للمسيحيّين في سورية

الأطفال وصعوبات التعلُّم.

شفاء القلب.

الطاقة الخلّاقة للمعاناة

إختر الحياة

لماذا أخشى أن أقول لك من أنا؟

من الصدق إلى الحقيقة

حبّ مُتفانٍ لأرض مُهملة

فنُّ العيش بتناغم

لماذا أخشى أن أحبّ؟

سائحة

ثق فتتجدّد

السعادة تنبع من الداخل

رحلة في فصول الحياة

القرار - إتّباع المسيح في حياتنا اليوميّة

أسرار الناصِرة

العائلة بين الأصالة والحرّيّة

نحو حياة أفضل (5)

الأيادي الضارعة

موعد مع يسوع المسيح

شبيبة متمرّدة

من يهديني؟

لا أؤمن بهذا الإله

اليقظة

حبّ بلا شروط

في بداية الحياة فرح ورجاء

الشعور بالرضا

في سبيل لاهوت مسيحيّ للأديان

دليلُكَ لفهم الأيقونات.

على درب الجلجلة

المنجد

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

الكتاب المقدس - ترجمة جديدة (حجم وسط)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)

العهد الجديد - الترجمة الكاثوليكيّة (اليسوعيّة)