أنسلم غرين - الإيمان بين إعادة التّفسير وإعطاء معنى جديد

شاعت منذ سبعينيّات القرن الماضي الكتابات الّتي تقارب أبعاد الإيمان المسيحيّ، استنادًا إلى اكتشافات علم النّفس، وكان المتقدّم من مؤلّفِيها الرّاهب الألمانيّ البنديكتيّ الأب أنسلم غرين الّذي يصف ذاته بـ«معالج النّفس».

دخل الدّير في العام 1964، وهو في التّاسعة عشرة من عمره. آثر بدايةً الفلسفة وحاز شهادة الدّكتوراه في اللّاهوت في أطروحةٍ عن فكر كارل راهنر اليسوعيّ. سرعان ما تعلّق قلبُه بعلم النّفس، وبخاصّةٍ بكارل غوستاف يونغ، فاندفع في الكتابة وصولًا إلى ما يزيد عن الثّلاثمائة كتابٍ حين تاريخه، فيها يطمئنّ إلى علم النّفس وكتابات آباء الصّحراء لتقديم الإيمان المسيحيّ ببساطة إلى الملايين من المنهوكين من وِزر متطلّبات الحياة. احتوت كتاباته موضوعات لا تُحصى كالصّلاة والإرهاق والبيئة والملائكة والرّاحة والهوايات، ونُقِلت إلى أكثر من ثلاثين لغة.

نشرت له دار المشرق مؤلّفات أربعة: يسوع الطّبيب المعالج (2018) عن حلّ المشاكل النّفسيّة بلقاء المسيح؛ كلمات تقوّينا (2020) عن البُعد الشّفائيّ للعقائد المسيحيّة؛ ثقْ فتتجدَّد (2021) عن استبدال التّغيّر، الّذي لا بدّ من أن يحمل في طيّاته شيئًا من العنف، بالتّحوّل الّذي يجعل الإنسان ذاك الشّخص الفريد الّذي هو عليه؛ فنّ العيش بتناغم (2022) عن تحويل الجراحات إلى لآلئ.

كتابٌ من فصولٍ ثلاثة، يحتوي على رسالة واضحة منذ مستهلّه، وهي: يجعلنا الإيمان «نفسّر حياتنا واختباراتنا، ونرتّبها من منظار ﷲ، بحيث تصير طريقًا إلى الحياة الحقيقيّة» (ص. 11)، بعبارةٍ أخرى يمنح الإيمانُ رؤيةً حسنة وتفسيرًا جديدًا للواقع. في الفصل الأوّل، يشرح الكاتب أنّ البشر يبلغون الواقعَ استنادًا إلى حالتهم الدّاخليّة، فالمؤمن ينظر إلى الخليقة على أنّها من صنع يدَي ﷲ. وبالتّالي لا يترك ذاته فريسة الجوّ الكئيب، بل يتحرّر من المبالغة في ربط الأشياء بشخصه: لا يرى في الإخفاق فشلًا، بل تحدّيًا، وفي الزّهرة يلتمس جمال ﷲ، وفي قريبه يحترم سرًّا يتجاوزه. في الفصل الثّاني، يؤكّد أنّ النّظرة الإيمانيّة إلى الواقع تتجسّد بالمحبّة الثّلاثيّة الأبعاد: محبّة ﷲ من كلّ القلب والنّفس والقدرة والفكر لأنّه في المرتبة الأولى، ثمّ محبّة الذّات، أي التّعامل معها بصلاح لأنّ ﷲ أرادني وخلقني، فلا أتصرّف بحسب انتظارات الآخرين متغرّبًا عن ذاتي، وأخيرًا المحبّة الأخويّة، فلا أتعامل مع الآخر بمنطق النّصر أو الهزيمة، بل بعيش الشّركة. في الفصل الثّالث، يتطرّق إلى المرحلة المتمِّمة للإيمان والمحبّة، وهي الحمد، أي الارتقاء والاندهاش والاحترام والرّنوّ. يحرّر الحمدُ الإنسانَ من التّكبّش الأعمى بحاجاته فاتحًا عينَيه على ﷲ خالقه.

كعادته، يحثّ أنسلم غرين القارئ على الانعتاق من التّفكير الرّائج وعدم الانهزام أمام عثرات الحياة. ففي خضمّ واقعٍ عسيرٍ، عرّب الخوري الدّكتور باسم الرّاعي كتاب صديقه لمساعدة القارئ المشرقيّ في تجنّب الإحباط وتحويل الأزمات إلى فرصةٍ للنّضوج.

في الواقع، إنّ الكتاب أقربُ إلى علم النّفس منه إلى اللّاهوت، فإذا حذفنا الأسطر الّتي يرد فيها اسم يسوع، لا يتغيّر شيءٌ في جوهره. فهو أقرب إلى الرّوحانيّة الخفيفة (light)، ذلك لأنّه يتوجّه إلى أناسٍ مرهقين بوطأة الضّغوط، يطلبون سندًا يرغّبهم بالمضيّ قدمًا. والفائدة الأخرى من خيار غرين، أنّ كتابه يتوجّه إلى كلّ مؤمنٍ أنّى تواجد، وليس إلى المسيحيّين حصرًا.

ملاحظة أخيرة عن هفوة طريفة وردت في الصّفحة 47 من الكتاب، فقد احتوى العنوان سهوًا على كلمة «المدح» فيما الصّائب هو «الحمد». ولكن في كلتا الحالتَين يبقى المعنى هو ذاته، إذ إنّ المرنّم، في المزمور 117، يدعو البشر قائلًا: «سَبِّحي الرَّبَّ يا جَميعَ الأمَم واْمدَحيه يا جَميعَ الشّعوب».

أنسلم غرين البندكتيّ

الإيمان بين إعادة التّفسير وإعطاء معنى جديد

نقله إلى العربيَّة الأب باسم الراعي
ط.1.، 60ص. بيروت دار المشرق، 2023

(ISBN: 978-2-7214-5634-2)

الأب غي سركيس: حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدّيس يوسف، والحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للّسلام... لمن؟ - أؤمن ...وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ...)

 [email protected].